ويرجع ذلك كله إلى عدم العناية بانتقاء الزوجة، فإن كثيرين في بلادنا الشرقية لا يعرفون من الفتيات قبل الخطبة إلا القليل، وذلك لقلة الاختلاط والمعاشرة، فإذا تم الزواج وجد الزوج أن شريكته في الحياة ناقصة العلم بطيئة الإدراك على حدود الغفلة أو قد تعدو الغفلة أحيانا إلى البله، وقد يكون الزوج في غاية الذكاء والحصافة ولكن الآباء ليسوا أبناء آبائهم فقط، فإن نصف ذكائهم يرجع إلى أمهاتهم، فإذا كانت الأم مغفلة أو بلهاء فأولادها يمتون بعرق إليها ولا تنفعهم مزايا الأب أمام نقائص الأم.
وهذا علة ما نراه من خيبة بعض الوارثين في الحياة وإضاعتهم أموال آبائهم، فإنهم ورثوا المال والعقار ولكنهم فقدوا أهم ما كان يجب أن يرثوه من كفاية طبيعية وحصافة أصلية في النفس.
والآن نقول إنه إذا كانت أهم غاية اجتماعية للزواج هي النسل وجب أن يعنى كل من الزوجين بانتقاء الآخر من حيث سلامة الجسم والعقل أكثر من العناية بالمال أو الجمال أو غير ذلك من الاعتبارات، ولا يكون ذلك إلا إذا عاشر الخطيب خطيبته عدة أشهر قبل الزواج، وعرف مقدار ذكائها واتجاه حديثها ونزعاتها التي تنطق بها حتى فلتات لسانها.
لقد قيل إن تربية الأولاد تبتدئ قبل ولادتهم، وذلك بالعناية بالأم حتى يولد الولد صحيحا مستكملا مدة حمله، ولكننا يجب أن نزيد على ذلك ونقول إنه يجب العناية بانتقاء الزوجة أيضا حتى تكون سليمة الجسم ذكية العقل، كي يرث ابنها هاتين الصفتين الثمينتين.
الفصل العاشر
الصغائر العظيمة
قلما نتأمل في أخلاق بعض الناجحين في الحياة، الفائزين بغنائم الدنيان إلا ونجد أنهم يعنون بأشياء تعد صغيرة تافهة ولكنها بتراكمها وتجمعها تعد كبيرة عظيمة.
فقد ننظر مثلا إلى رجل غني قد جمع ثروة طائلة يحسده عليها زملاؤه ومنافسوه فنتساءل عن علة غناه، فيقال لنا: إنه الحرص والبخل، وتبحث أنت فيما هو هذا الحرص وهذا البخل فلا تجدهما سوى العناية المفرطة بالصغائر أي بالمليم والقرش، ونحن نحسد البخلاء الحريصين لسبب واضح وهو أننا نعجز عن العناية بالصغائر مثلهم ولا نطيق هذا المثل الإنجليزي اللعين الذي يقول: ابحث عن القرش تأتك الجنيهات.
وقد ننظر مثلا إلى رجل سياسي قد نجح وصارت له كلمة الزعامة فنتبين أسرار هذا النجاح في أخلاقه فلا نجدها إلا في العناية بصغائر الأمور التي لا يأبه لها معظم الناس، فتراه يعني بلفظة جميلة يختزنها لخطبة شائقة يهيئها لاقتناص خصم. أو تراه يتعرف وجوه الناس وأخلاقهم وسيرهم بما لا تبالي به أنت. أو تراه يدخل في تفاصيل تظن أنها لا تهم أحدا سوى صغار الكتاب.
ومما اشتهر به أكثر العظماء ميلهم لبحث التفاصيل الصغيرة ودخولهم في أشياء يسهل على الكاتب الصغير القيام بها، فقد كان نابليون مثلا لا يغادر صغيرة في الجيش إلا ويعرفها، فبينما كان مثلا يعد الجيش للغارة بعد ساعة أو ساعتين كان يكتب الخطابات بشأن الجوارب للجنود، وكذلك كان حال سائر عظماء الرجال.
صفحة غير معروفة