غير أنه لحسن حظ القائمين بالدراسات الأدبية، يجوز لناقدين مختلفين أن يستخلصا من روائع الماضي مبدأين؛ لأن الأمر هنا أقرب إلى الأضواء الكاشفة، يمكنك أن تلقبها من هذه الزاوية فتبرز معالم وتختفي معالم، ثم تلقيها من تلك الزاوية فيختفي البارز ويبرز المختفي، فكيف يكون الفصل بين ناقدين اختلفا لأن كلا منهما اختار مبدأ غير المبدأ الذي اختاره زميله؟
أظن أن الأمر تفصل فيه الغاية المنشودة، فلماذا ينظم الشاعر شعره أو يكتب القاص قصته؟ لو اتفق الناقدان على غاية بعينها لم يحتج الأمر إلا إلى تحليل قليل ليتفقا بالتالي على مبدأ واحد شأنه أن يؤدي إلى تلك الغاية الواحدة، أما إذا اختلفا، فلم يعد سبيل بينهما إلى خصومة وجدال، أحدهما يريد السفر إلى الشمال، والآخر يريد السفر إلى الجنوب، ولكل منهما قطار، وإنما يكون الجدال مجديا إذا أرادا معا أن يتجها نحو الشمال، ثم اختلفا على أي الوسائل تكون أنسب للسفر.
4
ومن حق القارئ علي أن يسألني أي مبدأ تختار لنفسك على أساسه يكون تحليل القطعة الأدبية للحكم عليها، وجوابي في اختصار هو أن تكون القطعة الأدبية مكتفية بذاتها، غير معتمدة في فهمها وتقديرها على شيء وراءها ولا على شيء أمامها؛ فاعتقادي هو أن الأثر الأدبي - والأثر الفني بصفة عامة - يبعد جدا عن الفن الأصيل إذا كانت مهمته أن «يصور» شيئا، سواء كان هذا الشيء المصور خارج الإنسان أو داخله. إن كل كائن مخلوق في الدنيا قيمته في نفسه، لا في غاية يؤديها، فلماذا يشذ الخلق الأدبي والفني عن ذلك؟ هذا الجبل بديع لذاته، لا لأنه يصد الرياح الحارة ويلطف الجو، وكذلك قل في هذا النهر وتلك الزهرة، قله في الطائر الغرد، وفي كل فرد من الإنسان تستوقفك شخصيته لأي سبب من الأسباب. لو كانت مهمة القصيدة من الشعر هي أن تصف لي نهرا بذاته عند نقطة بعينها، ولو كانت مهمة القصة هي أن تصف لي شخصا بذاته في حقبة من الزمن بعينها، بحيث يجوز لي أن أنظر إلى الوصف من جهة وإلى الشيء الموصوف من جهة أخرى، فأقول إن الكاتب قد أجاد أو أساء، لما كان للأدب مهمة يؤديها؛ لأن النهر هناك لمن شاء أن يراه، ولأن الشخص المعين هناك لمن أراد أن يلتقي به أو أن يقرأ عنه في كتب التاريخ.
كلا، ليست مهمة الفن في شتى صوره أن «يحاكي الطبيعة» أو أن «يحكي» عن الإنسان؛ لأنه عندئذ يكون صورة باهتة لأصل ناصع، وفيم حاجتنا إلى الصورة وأصلها هناك قائم؟ ليست مهمة الفن في شتى ألوانه أن «يكشف» عن حقيقة سبق وجودها وجوده؛ لأن السابق عندئذ يكون متبوعا ثم يجيء الفن تابعا، كلا، ولا مهمة الفن في شتى قوالبه وأساليبه أن «يعظ» الناس كيف ينبغي أن يسلكوا في هذا الموقف أو ذاك؛ لأن الواعظين على المنابر قائمون بأداء هذه المهمة خير الأداء، ولكن مهمة الفن هي أن «يخلق» و«يبدع»، أن يخلق كائنا جديدا لم يكن له أصل سابق عليه، لا في جوانب الطبيعة الخارجية، ولا في حالات النفس الداخلية. نعم، قد يتخذ الفنان من هذه وتلك عناصره، كما يتخذ من لغة التفاهم نفسها أدواته، لكن الكائن الذي يبدعه من تلك العناصر وبهذه الأدوات لا بد أن يكون خلقا وإبداعا.
بهذا المبدأ الذي أوجزته إيجازا شديدا تراني أقبل على القصة أو القصيدة باحثا فيها عن مواطن سرها، وبمقدار ما أراها معتمدة على ما ليس منها وما ليس فيها يكون نقصها، فلست أريد لها أن ترتكز على حادثة أو حوادث معينة، بحيث لا يكون لها معنى مفهوم بغير تلك الحوادث، ولست أريد أن ترتكز على قيمة خلقية أو على عقيدة مذهبية معينة، بحيث تفقد كيانها كله لولا تلك القيمة الخلقية أو هذه العقيدة المذهبية. إنها لو فعلت شيئا من هذا كانت - على فرض بلوغها حد الكمال في مهمتها - شيئا يفتقر إلى ما هو أهم منها.
فإذا سألني الأستاذ السباعي قائلا: من هو الناقد؟ أجبته بهذا الجواب الموجز: هو رجل زودته تجاربه الفنية بمبدأ يسري على روائع الأدب في الماضي، ويريد له أن يسري على نتاج الأدباء في الحاضر.
الأديب ثم الناقد
لن أطاول نقادنا المحدثين في علمهم بمبادئ النقد الأدبي ومذاهبه؛ ولذلك فلن أستخدم في هذه الكلمة القصيرة لفظا واحدا من مصطلحاتهم، بل إني سأقول كلمتي بسيطة صادرة عن قارئ بسيط؛ فالعلاقة بين الأدب والنقد - كما أراها - هي نفسها العلاقة بين كاتب وقارئ.
فكما يتفاوت حملة الأقلام ارتفاعا وانخفاضا في القدرة على التعبير عن ذوات أنفسهم، فكذلك يتفاوت القراء ارتفاعا وانخفاضا في القدرة على فهم ما يقرءونه؛ فإن كان من يبلغ من القدرة الكتابية حدا ملحوظا هو الذي يسمى كاتبا، فالقارئ الذي تبلغ قدرته على فهم ما يقرؤه حدا بعيدا هو الذي نسميه ناقدا؛ فليس إذن في العلاقة بين الأدب والنقد سر ولا سحر، ما دام الأدب كتابة لكل من أراد أن يقرأ، والنقد قراءة تتميز بجودة الفهم لهذا المكتوب.
صفحة غير معروفة