فلقد فوجئت ذات صباح بالنبأ أن فلانا قد أصابه شلل عطل الجانب الأيمن من جسده وأخرس اللسان! وما هي إلا أن فتحت الخزائن، وغاض المال كما يغيض الماء في كثبان الرمل، والرجل راقد على سريره ينظر ويرى، لكنه لا يلوح بذراع ولا يردع بلفظ؛ لأن الذراع شلاء، واللفظ مكتوم.
طافت برأسي صورة صديقي - عليه رحمة الله - فوجدت أني إذا غضضت النظر الآن عن ماله المدخر وما أصابه في غفلة عين، فإن جانب الأفكار التي كانت تجمعت عند صديقي بغير وحدة توحدها في وجهة واحدة للنظر، إنما هي صورة مجسدة لحياتنا الفكرية في مجموعها؛ فلو أخذنا كل فرع من فروع الحياة الثقافية عندنا على حدة، وجدناه على قدر من القيمة لا بأس به! فرجال السياسة لهم في كل يوم إضافة تثري الفكر السياسي، ورجال الفنون لهم في كل يوم معرض لا يخلو من القيمة الفنية، ورجال الأدب ذوو قدرة مشهود لها في الشعر والقصة والمسرحية والمقال، ورجال الدراسات الجامعية ملئوا حياتنا بمكتبة علمية في شتى الفروع.
لكن انظر إلى الميدان نظرة الطائر، أعني نظرة تجمع المتفرقات في موقف واحد، تجد عسيرا عليك أن تلمح الطابع الخاص المميز الذي يجيز لك أن تقول عنه إنه طابعنا الثقافي في عصرنا الراهن؛ فلا غرابة - إذن - أن تفتح صحيفة الصباح - كل صباح - فكأنما أنت في بابل؛ تعددت فيها اللغات، بل تعددت فيها الحضارات، لا يفهم فيها أحد عن أحد إلا قليلا؛ إذ ربما وجدت في صفحة كلاما يتسق مع ما كان يدور في أحاديث القرن العاشر وما قبله، وفي صفحة أخرى كلاما يتسق مع ما يدور الآن في أحاديث أوروبا وأمريكا! وكان ذلك نفسه هو الشأن مع صديقي في حياته الثقافية؛ فلم يكن غريبا منه أن يتحدث الليلة حديث الأقدمين، وأن يتحدث غدا حديث المعاصرين، وأن يكون في كل من الحالتين متحمسا لما يتحدث به؛ لأنه في حياته الثقافية حبيس لحظته، فكان كأنه عدة رجال في رجل واحد.
فأنت واجد في فكرنا السياسي - إذا أخذت بما يدور في المجالس الخاصة، لا ما ينشر على الملأ - أقول إنك واجد في فكرنا السياسي كل ما تشتهي العقول من مذاهب يعارض بعضها بعضا، وأنت واجد في فكرنا الفلسفي - كما هو قائم في قاعات الدرس في الجامعات، وكما هو منشور في الكتب المعروضة في المكتبات - كل ما يطوف ببالك من صنوف الرأي والاتجاه، وأنت واجد في الأدب ما يجري مع القديم وما يقفز إلى أحدث الجديد، أنت واجد في حياتنا هذا كله فلا تدري أين نحن في حقيقتنا الراهنة من هذه المتنوعات.
نعم إنك لتجد اختلاف الرأي في كل مجتمع متحضر، لكنه اختلاف يدور معظمه في إطار هذا العصر وحضارته، أما الاختلاف الذي أعنيه عندنا فهو بين ثقافات عصور متباعدة؛ مما يستحيل معه أن تتكون لنا وجهة واحدة للنظر.
التوتر الدولي ومهمة الأديب1
1
العلاقة بين الكاتب وعصره ظاهرة لا تخطئها النظرة السريعة؛ فآثار الأدب والفكر في عصور التاريخ كلها كفيلة أن تمدنا بأي عدد شئنا من الأمثلة التي تؤكد الرابطة الوثيقة بين تلك الآثار وروح العصر الذي كتبت فيه، ولم يكن هذا عن عمد من أصحابها، ولكنه أمر يتم لأنه من المحال أن يتم سواه؛ فعناصر الحياة قائمة حول الكاتب، وهو بعد ذلك حر في أن يتناولها على أي وجه يختار.
بماذا تغنى هومر إذا لم يكن قد تغنى بما يشغل قومه من بطولات وأمجاد؟ وماذا أنشد الأقدمون من شعراء العرب إن لم يكونوا قد أنشدوا لقبائلهم بما تهتز له قلوبهم من شئون وأحداث؟ لماذا كتب سرفانتيز عن الفرسان ساخرا إن لم يكن قد كتب ذلك في عصر آلت فيه فروسية العصور الوسطى إلى زوال؟ لماذا جاءت مسرحيات شيكسبير وكأنها الشباب العارم ينتفض بالفتوة أكثر مما يعنى بالصقل والتجميل، إن لم تكن قد جاءت في عصر المغامرة وازدهار ربيع الحياة بعد شتاء القرون السوالف؟ ولماذا كانت المسرحيات الفرنسية في القرن السابع عشر مصقولة متألقة مرتبة الأسطر والحروف، إذا لم تكن قد كتبت في عصر القصور المزخرفة المزدانة؟ لماذا اجتمعت الأقلام كلها في أوائل القرن الماضي على التغني بالطبيعة في ريفها ومراعيها إذا لم تكن الحياة المدنية الصناعية الناشئة عندئذ قد أفزعتها؟ هل كان يمكن لدستويفسكي وتولستوي أن يكتبا ما كتباه إلا في روسيا إبان القرن التاسع عشر؟ وهل هو من قبيل المصادفة العمياء أن يتآزر الكتاب في المائة العام الأخيرة على الكشف عن علل المجتمع وعيوبه، التي كان من جرائها أن عاش سواد الناس في بؤس ومعسرة؟ أم أن ازدياد الاهتمام بأفراد الشعب في المرحلة الأخيرة من مراحل التاريخ هو الذي لفت الأقلام هذه اللفتة الجديدة؟
إنه في الحقيقة لمن تحصيل الحاصل أن نقول عن الكتاب إنهم متصلون دائما بعصورهم التي يعيشون فيها، فما عصورهم إلا مجموعة من ناس وأحداث، وإن هم إلا فريق من هؤلاء الناس، وإن أحداثهم إلا جزء من تلك الأحداث، ولا فرق في الجوهر بين أن يؤيد الكاتب عصره أو يعارضه، فكلا الموقفين اتصال؛ فهذان تورجنيف ودستويفسكي يتعاصران في روسيا القرن التاسع عشر، ومع ذلك فقد جاهد الأول لمحو القيم كانت تجعل من روسيا بلدا شرقيا يختلف عن غربي أوروبا، على حين كان الثاني يتعلق بكل ما هو روسي أصيل. وكذلك كان كبلنج وبرنارد شو يتعاصران في إنجلترا وهي في أوج عزها، ومع ذلك فقد كان الأول يقرع لإمبراطوريتها الطبول، على حين كان الثاني يسخر منها ويتمنى زوالها.
صفحة غير معروفة