ومع ذلك فلا بد من التطور بالتأليف - وخصوصا في مجال الأدب - مع مقتضيات هذا العصر، عصر التقنيات (التكنولوجيا)، فقد بات حتما على كثير من الكتاب أن يوائموا بين إنتاجهم، وبين وسائل النشر الجديدة؛ السينما، والراديو، والتلفزيون، وهذا هو بالفعل ما يحدث . ولعلنا نذكر كيف أن أدباء الجيل الماضي وما قبله، حين رأوا الصحافة وسيلة وحيدة للنشر، واءموا بين إنتاجهم الفكري وبين المقالة الصحفية، بحيث جاء الجزء الأكبر من مؤلفاتهم مجموعات من مقالات نشرت في الصحف ثم جمعت! فلا عجب أن نرى أدباء هذا الجيل يكتبون ما يكتبونه ونصب أعينهم وسائل النشر الجديدة، ومع ذلك فالكتاب ما زال أملهم في البقاء.
ومن نتائج العصر التقني هذا أيضا، تصوير الكتب الضخمة في مصورات ضئيلة الحجم، حتى لينحصر المؤلف الكبير فيما لا يزيد حجما عن علبة الكبريت الصغيرة. وفي حديث لي ذات يوم مع مدير مكتبة الكونجرس في واشنطن - ولعلها أضخم مكتبة في الدنيا بعد مكتبة المتحف البريطاني بلندن - أنبأني أن كتب مكتبته تلك كلها، يمكن ضغطها في مصورات لا تشغل أكثر من غرفة واحدة، ولكن ما نختصره من مكان الكتب، نطلب أكثر منه للأجهزة التي لا بد منها عندئذ؛ ليتمكن القارئون بها قراءة تلك المصورات؛ ومعنى ذلك أن الكفة ما زالت راجحة في صف الكتاب.
هكذا نرى أن الكتاب والحضارة طرفان يتبادلان الأثر والتأثير، حتى ليمكن القول بأنه لا كتاب بلا حضارة، ولا حضارة بغير كتاب.
محاكمة الأدباء
الحاجز الذي يفصل اليقظة عندي عن الحلم، كثيرا جدا ما يكون حاجزا رقيقا شفافا، كأنه حاجز من الزجاج الصافي الذي تحسبه العين هواء وما هو بهواء؛ إذ كثيرا ما يختلط في ذاكرتي الحلم باليقظة، فلا أدري - فيما بعد - أكان المشهد الذي أمام ذاكرتي مأخوذا من الحياة الواعية، أم كان مأخوذا من حلم رأيته في نعاس، ولست أعلم حتى هذه الساعة إن كان مرد ذلك إلى ضعف الإدراك اليقظان، أم كان مرده إلى قوة الحلم ونصوعه! والأغلب في تلك الحالات التي يشتد فيها وضوح الحلم، أن أكون قد أويت إلى فراشي والذهن مشغول بفكرة وردت خلال ساعات النهار.
ولقد حدث منذ قريب أن قرأت لمتحدث حديثا أخذ يلقي فيه الأحكام على طائفة من الناس، هل يسمح لهم بالدخول في دنيا الأدب أو تغلق دونهم أبوابها، فكأنني رأيت ذلك المتحدث وقد أخذ بمفاتيح الجنة في يديه، ليرضى عمن يشاء وليغضب على من يشاء، وكنت على علم منذ أمد ليس بقصير أنني ممن لا يظفرون عنده بالرضا، وكان ذلك قبل أن أجرى حديثه ذاك في أنهار الصحف، ومع ذلك - وأقول الحق - فلم أزدد له إلا حبا، لكن جاء حديثه ذاك عن غيري من رجال الأدب، فشغلني، خشية أن يكون الرجل على صواب، فسألت نفسي (وكنت في لحظة السؤال قد أويت إلى الفراش)؛ ترى ما معيار الرجل في فهمه للأدب؟ ولم يكد يأتيني الجواب بأن معياره هو إما أن تكون كاتب قصة ومسرحية فتكون أديبا، وإما ألا تكون فلا تكون، ودخلت في نعاس، وجاء الحلم ليستأنف الحوار.
رأيتني في محكمة، وكان صاحبنا هو الذي اتشح بوشاح القضاء، وجلس على منصة القاضي، ولم يكن على المنصة قاض سواه، لكن جلس إلى يمينه رجل، وإلى يساره آخر، عرفت فيما بعد أن الجالس إلى اليمين مكلف بإعداد فرائض الاتهام، وأن الجالس إلى اليسار واجبه أن يسجل في دفاتره نصوص المجادلات في أثناء المحاكمة، والذي عجبت له حقا هو أن المتهمين الذين أجلسوا وراء القضبان، كانوا خليطا عجيبا من قدماء ومحدثين ومعاصرين، فتركت كل ما حولي وأخذت أتفرس في وجوههم وثيابهم وحالاتهم التي أستشفها من ملامحهم، والطريقة التي جلس بها كل منهم؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك سواء. ولكثرة ما خالطت هؤلاء الناس فقد عرفتهم، أو عرفت معظمهم، برغم طول الغياب بالنسبة إلى بعضهم، عرفت منهم - في يقين - الجاحظ، والتوحيدي، والهمذاني، وفرانسيس بيكون، ومونتيني، وأديسون، وأولدس هكسلي، وطه حسين، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني ... ولم يكن هؤلاء كل من جيء بهم إلى المحاكمة، بل كان معهم أفراد آخرون لم أذكر أني رأيتهم قبل ذلك.
جيء بهؤلاء إلى المحاكمة أمام القاضي الذي بدأ الجلسة بكلمة رفع بها شعار الأخلاق في دنيا الأدب؛ فللأخلاق في عالم الأدب والفن أصول قد تختلف عن قواعد الأخلاق السارية بين الناس في حياتهم العامة. ولما كان لكل مجموعة عرفها التاريخ من القواعد والقوانين مبدأ عام تنبع منه تلك المجموعة، فالمبدأ العام في دنيا الأدب هو القصة والمسرحية، فمن لم يحترم هذا المبدأ المقدس، ثم اجترأ رغم ذلك فعد نفسه - أو عده الناس - أديبا، كان مزورا، وحق عليه العقاب الذي نصت عليه مواد القانون في حوادث التزوير، وهؤلاء الناس الذين جمعتهم شرطة «الآداب» اليوم للمحاكمة، هم جميعا من المزورين الذين دخلوا جنة الأدب بغير حق.
ونودي على المتهم الأول: عمرو بن بحر الجاحظ! وجاء الرجل من قفص المتهمين ليمثل أمام القاضي، وقرأ أمامه المكلف بقراءة الاتهامات، قرأ تهمته - والتهمة متشابهة بالنسبة إلى الجميع؛ إذ جميعهم دخل رحاب الأدب وليس في يمينه قصة ولا في يساره مسرحية - وكان قارئ الاتهام - والحق يقال - على شيء من الدقة؛ لأنه استثنى من أعمال الجاحظ عملا واحدا (هو البخلاء)، وأما ما عدا ذلك فهو من باب التزوير.
القاضي :
صفحة غير معروفة