ومؤدى ذلك كله أنه من قبيل التعميمات التي تطمس الفوارق ذات المعنى، أن نتحدث عن «الأدب في الحياة الراهنة» كأنما الأدب كله على غرار واحد في أرجاء العالم كله، وكأنما الحياة الراهنة تحمل طابعا واحدا عند الناس أجمعين؛ فالأدب في عصر العلم والصناعة هذا يتسم بالعبوس والتشاؤم في بلاد فقدت عزها حين فقدت مستعمراتها، والأدب في عصر العلم والصناعة يتسم بالبشر والتفاؤل في بلاد استردت عزها حين طردت المستعمر من أرضها. •••
كان هانز إريك نوساك هو الذي يمثل بلاده - ألمانيا الغربية، و«نوساك» هذا شاعر وقصصي وكاتب مقالة - فاستهل كلمته بسؤال ألقاه، وهو: هل استطاع الأدب في كل تاريخه أن يمنع حربا؟ ثم أجاب عن سؤاله بنفي قاطع؛ فليست مهمة الأدب المباشرة أن يخوض في مشكلات الساعة؛ لأن هذه المشكلات مصيرها إلى حل وزوال، وهي إذا زالت لم يعد ما كتب عنها بذي قيمة إلا من الناحية التاريخية وحدها. وإنه لمن تناقض القول أن نصف كتابا معينا بقولنا إنه «أدب»، ثم نقول عنه في الوقت نفسه إن قيمته قد ذهبت بذهاب المشكلات التي تعرض لحلها؛ لأن نضارة الأدب ربيعها دائم على مر الزمن، وعلى اختلاف الأمم.
لكن الأديب إذا لم يتعرض لمشكلات يومه، ففيم يكتب؟ إنها مفارقة تتطلب منا إمعان النظر؛ لأنها هي نفسها المفارقة التي قسمت النقاد فئتين؛ إحداهما تقول بوجوب أن يكون الأدب هادفا، والأخرى تقول بضرورة أن يترك الأدب حرا من قيود الأهداف. والظاهر أن جذور الخلاف كائنة في خلط الناس بين مفهومين متميزين: مفهوم «الإنساني»، ومفهوم «الاجتماعي». ولو أدركنا في وضوح أن «الاجتماعي» وسيلة تحقق لنا «الإنساني» لزالت عن المشكلة عقدتها. لو أدركنا أن كل ظواهر المجتمع بشتى صورها السياسية والاقتصادية إنما جاءت أو جيء بها لتخدم الإنسان - والإنسان لا يكون إلا فردا - لأدركنا تبعا لذلك أن الأدب لا بد أن يكون هادفا، لكن هدفه لا بد أن يكون هو الإنسان المتعين المجسد، فإذا شغل الأديب نفسه بأحداث عصره، فإنما يشغلها بها من الجانب الذي يصور لنا وقفة الإنسان إزاء هذه الأحداث، بحيث إذا زالت الأحداث واختفت أزماتها، بقيت صورة الإنسان حية في كل عصر وفي شتى الظروف، أما إذا انغمسنا في الأحداث لذاتها، نتعقبها ونحللها ونسجلها، فإننا عندئذ نكون بمثابة من ضحى بالغاية من أجل الوسيلة، فجعل الوسيلة غايته.
إن من شأن الكل الاجتماعي أن ينظر إلى الأفراد الأعضاء، ومن زاوية القيمة الإحصائية وحدها، فلا يهمه زيد لأنه زيد، ولا عمرو لأنه عمرو، بل إن زيدا وعمروا كليهما من الآحاد التي تتجانس عند العد والحساب. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان الفرد يفقد خصائصه المتعينة ليصبح تجريدا من التجريدات الإحصائية مطلوبة وضرورية؛ لأنها هي الوسيلة المعينة لنا على تخطيط مشروعاتنا وتنفيذها، لكن الهدف دائما ينبغي أن يكون حياة الإنسان، وإلا لأحس هذا الإنسان بالضياع النفسي الذي يذيبه في متاهات الأرقام.
ونعود إلى الأدب ومهمته فنقول: إنها هي هذا الإنسان آخر الأمر؛ فلا هي الظروف السياسية ولا الحالات الاقتصادية، ولا حتى القيم الأخلاقية؛ لأن هذه كلها هي «الوسائل الاجتماعية» التي خلقت خلقا لتهيئ للإنسان حياته خصبة غزيرة. إننا لا نقول بهذا إنه لا ينبغي لأحد أن يكتب في السياسة والاقتصاد والأخلاق، لكننا نقول إن مثل هذه الكتابة - على ضرورتها - لا تعد أدبا بديعا. ولنلاحظ أن معيار النقد للنوع الأول من الكتابة ليس هو معيار النقد للنوع الثاني؛ فالنوع الأول يقاس بما فيه - أو بما أعوزه - من سداد الاستدلالات المنطقية من الفروض النظرية أو من الأرقام الإحصائية، وأما النوع الثاني فمقياسه مدى صلته الحميمة بنفس الإنسان ونوازعه بكل ما فيها من كمال ونقص. النوع الأول لا يحتمل أن يكون في الصورة عيوب، والنوع الثاني يريد أن يرى الصورة الحية بعيوبها.
وعلى ضوء هذا التقسيم يتبين لنا أن قسمة الأدب المألوفة إلى «أدب خالص» و«أدب هادف» هي قسمة على غير أساس صحيح؛ ولذلك فهي مضللة؛ فالأدب كله هادف، ولكن الهدف يتحتم أن يكون هو الإنسان وحياته، لا الوسائل الاجتماعية التي أنشئت وخططت ونفذت من أجل ذلك الإنسان وتلك الحياة. وإن شئت فاقرأ أي أثر من آثار الأدب الخالد في أي لغة من لغات الأرض، وسل نفسك: ماذا في هذا الأثر الأدبي مما جعله يمسني برغم القرون التي تفصل بين عصري وعصره؟ إن أحداث العصر الذي أنشئ فيه مثل هذا الأثر الخالد كانت بغير شك شديدة التباين مع أحداث عصرنا، وصورة المجتمع القديم كانت شديدة الاختلاف عن صورة مجتمعنا، لكني - هكذا ستقول لنفسك وأنت تقرأ - لكني أجد شيئا في هذا الأثر الأدبي القديم يمتعني، فماذا عسى أن يكون؟ إني أجد فيه من النشوة ما أجده عند صديق حميم يحدثني الآن عن مشكلات عصري.
ها هنا سيجد القارئ الفكرة الضالة، سيجد أن ما قد أمتعه في الأثر الأدبي القديم ليس هو تفصيلات الأحداث الماضية، ولا هو «الأخبار» التي قد ترد في سياق القطعة الأدبية، لكن الذي أمتعه هو البقية التي تبقى بعد طرح المسائل التاريخية كلها، وما هذه البقية الباقية إلا «الإنسان» - سواء كان هو مؤلف القطعة الأدبية، أو كان شخصية أوردها المؤلف في قطعته هذه - البقية هي الإنسان في مواجهته لظروف عصره، فهل غلبته تلك الظروف أو غلبها؟ وكيف كان النصر أو كيف كانت الهزيمة في حياته الجارية؟ وهذا كله لا يكون بالنسبة للإنسان العام المجرد، بل يكون بالنسبة لهذا الفرد أو ذاك ممن عاشوا فعلا، أو ممن خلقهم خيال الأدب وأعاشهم في ظروف عصرهم. •••
وتحدث الشاعر والكاتب الهندي «أوماشانكار جوشي» في الموضوع نفسه - موضوع الأدب في حياتنا المعاصرة - فقال: إن من شأن الأدب أن يحول الحياة فيجعلها فنا جميلا، فإلى أي حد تخضع الحياة المعاصرة لمثل هذا التحول؟ وسؤال آخر لا بد من الإجابة عنه، وهو: إلى أي حد يستطيع الأدب أن يؤثر في الشخصية الإنسانية أو في المجتمع بصفة عامة في مثل الحياة المعاصرة التي نحياها؟
لقد أبرزت الحياة في العصر الحديث قيمتين إبرازا واضحا، وهما : الحرية، والعقلانية. ففي خلال المائة العام الأخيرة تعرضت هاتان القيمتان لأعنف الهجمات؛ فهذان هما «فرويد» و«يونج» قد نبها الناس إلى ما في الطبيعة الإنسانية من اللاعقلانية، وذلك هو ماركس يعرض نظرية مؤداها الحد من الحرية الفردية. نعم، إن العلم الذي يسود عصرنا كان من شأنه أن يؤكد روح العقلانية والحرية الإنسانية، لكن العلم قد تولد عنه ولد - هو التقنية (التكنولوجيا) - فجاء هذا الولد الشيطاني ليضع سلطانا لا يحد في أيدي الممسكين بأزمة الأمور، والذين بحكم أوضاعهم المكتبية (البيروقراطية) قد حولوا أفراد الناس في مخططاتهم وفي إحصاءاتهم إلى نكرات تعرف بالرقم والعدد؛ مما أدى في كثير من الأحيان إلى أن فقد هؤلاء الأفراد حرياتهم الشخصية إلى حد كبير، كما خضعوا إلى نوازع اللاعقل أحيانا كثيرة. صحيح أن التقنية في حد ذاتها عقلانية الطابع، لكنها من وجهة أخرى قد تؤدي إلى أن تكون القوة الاجتماعية والسياسية في أيد تتحرك بالهوى دون العقل بمنطقه السليم.
من أجل هذا كان الأدباء اليوم في مأزق عسير، كلما أرادوا تحويل خبراتهم التي مارسوها في عصر التقنية هذا إلى فن أدبي؛ فلقد ألفنا في التاريخ الأدبي أن نجد العمل الأدبي العظيم يلخص عصره كله، كما نرى مثلا عند هومر في اليونان القديمة، وفيرجيل في الرومان، وكاليداسا في الهند، ودانتي في طلائع النهضة الأوروبية، فكل من هؤلاء قد استطاع أن يعبر عن خبرات مجتمعه كلها من أدناها إلى أقصاها، بما في ذلك جانبها الجمالي وجانها العقلي وجانبها الديني على السواء، أما اليوم فقد تشعبت جوانب الحياة تشعبا لا يتيح للأدب أن يجمع هذا الشتيت في منظور واحد، مع أن مثل هذا التجميع للمتفرقات في منظور واحد هو الذي يمكن الأديب من لمح الحقائق الخالدة خلال لحظة زمنية واحدة؛ فأحداث عصرنا تتدفق تدفقا سريعا، بحيث يكاد يستحيل على الفنان أن يمسك منها بأكثر من شريحة هنا وشريحة هناك دون أن يضم الجميع في بناء متكامل واحد، فلا غرابة أن تعددت مدارس الأدب والفن تعددا لم يسبقه نظير في التاريخ.
صفحة غير معروفة