فرغ أولدس هكسلي من إلقاء كلمته في موضوع «الأدب والحياة الراهنة»، فدعيت لإلقاء كلمتي، فأوجزت رأيي قائلا إنه لمن تحصيل الحاصل أن نعيد القول ها هنا بأن حضارتنا الحديثة حضارة علمية في أساسها، فلم يحدث قط في تاريخ البشر أن تغلغل العلم في حياة الإنسان اليومية بمثل ما يتغلغل اليوم في حياته، وإذا كان هذا هكذا فمحال أن تمضي هذه الظاهرة دون أن تسم الأدب بطابعها الذي لا يخطئه بصر.
إن أهم مميزات العلم هو أنه يبحث عن الاطراد في ظواهر الطبيعة؛ فليس الذي يعنيه هو الحادثة الفذة الفريدة التي لا تكرار لها، بل الذي يعنيه هو التشابه بين مجموعة من الظواهر، بحيث يجوز إدراج المجموعة المتشابهة كلها تحت قانون واحد. وأما الحادثة الواحدة أو الكائن المفرد الواحد، فلا يهم العلم إلا من حيث هو حالة من بين مجموعة الحالات التي تخضع كلها على السواء لتعميم واحد. نعم إن لكل حادثة واحدة أو فرد واحد طابعا مميزا له دون سائر الحادثات أو الأفراد، منه تستمد الحادثة أو الكائن المفرد هويته الكيفية، لكن هذه الهوية الكيفية للأشياء لا قيمة لها عند العلم، وإنما القيمة كل القيمة هي للجانب الكمي الذي تضيع فيه فردية الفرد بحيث تتلاشى في بحر التعميم مع سائر أشباهها. وليس معنى ذلك بالطبع اختفاء الجانب الكيفي من فردية الفرد الواحد، كلا، بل هو موجود، لكنه لا يكون موضع نظر العلماء في بحوثهم العلمية الخالصة.
ونحن إذا تناولنا الإنسان نفسه بالبحث العلمي على الأساس المذكور، كان شأنه شأن سائر الأشياء، من أن فردية الفرد بما فيها من طابع كيفي مميز لا تكون بذات شأن في مجرى البحث العلمي، ويصبح الفرد الواحد من الناس حالة من بين مجموعة الحالات التي يصدق عليها هذا القانون أو ذاك. ولو كان من خصائص الأدب - كما يقال أحيانا - أنه يعكس ما هو واقع فعلا، لوجب أن يجيء الأدب في عصرنا - عصر العلم - محاكيا لهذا العلم السائد في اطراحه للتمايزات الكيفية بين أفراد الناس، والنظر إلى هؤلاء الأفراد كأنهم أعضاء متشابهون من مجموعة واحدة متجانسة، لكن الأدب - لحسن الحظ - قد لا يضطلع دائما بتصوير الواقع كما يقع تصويرا مرآويا؛ إذ نراه أحيانا يتمرد على الواقع بذكر نقيضه ليحدث شيئا من التوازن، وكم من مثل في تاريخ الفكر الإنساني يبين لنا في جلاء هذه الحركة البندولية، التي تقفز من النقيض هنا إلى نقيضه هناك. وإن حركة الأدب المعاصر لشاهد جديد يساق هنا؛ فمن إطار التفكير العلمي الذي يسود المعامل والمصانع، وثب الأدب إلى إطار آخر هو من إطار العلم على طرفي نقيض، لكنه كان في وثبته تلك متعدد الوسائل والسبل.
فمن وسائل فراره من ميكانيكية العلم التي تعمل على محو الفوارق الفردية دعوته إلى العودة إلى القيم الروحية المتمثلة في الديانات بصفة خاصة، وكثيرون هم قادة الفكر في أوروبا وأمريكا الذين يدعون أقوامهم إلى الأخذ بشيء من روحانية الشرق؛ فهذا هو أولدس هكسلي يمجد روحانية المدنية الهندية في كتابه «لا بد من وقفة في سير الزمن»، وفي كتابه «الفلسفة السرمدية»، وفي مجموعة مقالاته المعنونة «غدا وغدا وغدا»؛ ففي هذه الكتب تراه - من قبيل رد الفعل للنظرة العلمية التي تنطوي على تفتيت الوحدة الكونية - يدعو إلى نوع من الصوفية يجمع أشتات ما تفرق على يد العلم من أشلاء الحقيقة الكونية الواحدة، وكذلك نرى دعوة كهذه في قصة سومرست موم «حد الموسى».
لكن ذلك إن لاءم أدباء الغرب، فماذا عسانا أن نقول عن أدبائنا نحن الذين يجدون أنفسهم حملة للتراث الروحي من جهة، ومهددين بزوال الفردية الإنسانية بتأثير العلم والصناعة من جهة أخرى؟ لقد فر أدباء الغرب من علمهم وصناعتهم، فلاذوا بمثل عليا وجدوها في حضارات شرقية قديمة، فماذا يصنع أدباؤنا إذا هم أحسوا الإحساس نفسه بإزاء الروح الإنساني المهدد بالتفكك والضياع؟ إن المفر هنا لا يكون بالانتقال إلى حضارات أخرى؛ لأن التراث الحضاري المحلي فيه ما يكفي، بل يكون المفر إلى الماضي نحيى مثله العليا الروحية، لا لنلغي بها العلم والصناعة؛ لأننا في أشد الحاجة إلى علم وإلى صناعة، بل لنساير بها آثار العلم والصناعة، بحيث يكون لنا من كل جانب من الجانبين ما يكفل ألا يسرف الجانب الآخر إلى حد الشطط؛ فلا الوضعية العلمية ينبغي أن تنسينا القيم الروحية العليا، ولا الانغماس في الحياة الروحية يجوز له أن ينسينا العيش الرغد في هذه الدنيا بفضل العلم والصناعة.
فلا غرابة أن وجدنا شطرا كبيرا من إنتاجنا الأدبي (في البلاد العربية) في الحقبة الأخيرة من تاريخنا الأدبي منصرفا إلى نوع من «النهضة» (الرنيسانس) المرتكزة على إحياء التراث القديم، وها هم أولاء أدباؤنا جميعا، طه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، قد شغلوا أنفسهم جادين في إحياء المثل العليا التي تتمثل في تراث الأقدمين، سواء أحيوها بنشر ذلك التراث، أو أحيوها بأن تمثلوها هم في أنفسهم ثم جسدوها في إنتاجهم الأدبي الأصيل.
على أن فرار الأدباء من ضرورات العلم والصناعة إلى مثل عليا روحية كانت تسود قبل عصر العلم والصناعة، ليس هو الملاذ الوحيد الذي لجئوا إليه؛ فقد ترى من الأدباء الثائرين على ضياع الفردية الإنسانية تحت ضغط الحياة العلمية المعاصرة، من لا ينتقل من مكانه؛ فلا يذهب إلى حضارة بعيدة في المكان إن كان من أدباء الغرب، ولا يذهب إلى مثل عليا بعيدة في الزمان إن كان من أدباء الشرق، بل تراه يلجأ إلى الغوص في أعماق نفسه هو؛ ليكون في ذلك تثبيت لشخصه وإقرار بوجوده الفردي. وخذ مثلا لذلك أديبا مثل جيمس جويس، أو من شئت من الأدباء المعاصرين الذين يغضون النظر عن الأشياء الخارجية وما بينها من علاقات، فتلك لا تعنيهم بقدر ما يعنيهم خواطر ذواتهم وما بينها من روابط، حتى وإن جاءت الصورة آخر الأمر على غير ما تألفه الأبصار والأسماع؛ فالمهم عندهم هو مجرى الشعور، لا مجرى الحوادث الخارجية. وهكذا تجد الفرد الإنساني في مثل هذا الأدب قد انتقم لفرديته أشد انتقام؛ إذ جعل من نفسه دنيا بأسرها، بدل أن يكون جزءا من كل؛ فالحقيقة الذاتية هنا - لا الحقيقة الموضوعية - هي مدار الحديث. الحقيقة الكيفية الشعورية، لا الحقيقة الكمية المجردة، هي العماد الأول والأخير؛ فلا العقل بمنطقه، بل ولا ألفاظ اللغة بما قد اصطلح لها من معان، بذات شأن. وأي شأن يكون لها ما دام الفرد الواحد قد أصبح كالجزيرة المنعزلة عن بقية أجزاء العالم، يحلم من داخل ثم يروي حلمه كيفما جاء، ومن شاء فليفهم، ومن لم يشأ فعليه هو الخسار. ذلك كله عند أدباء أوروبا وأمريكا، والحمد لله عندنا نحن أدباء الجمهورية العربية أن لنا ما يشغلنا من نهوضنا الاجتماعي مما يجعل الأديب مغموسا إلى أذنيه في الأوضاع الاجتماعية الجديدة، حتى لينسى مجرى شعوره الخاص الذي قد يجعل منه جزيرة معزولة في خضم الحياة، بكل ما تستتبعه تلك العزلة من مرارة وألم.
لكن من أدباء العالم المعاصر من لا يتيسر له أن يغمض عينيه عن حضارة العلم والصناعة ليرتحل بخياله إلى حضارات بعيدة في المكان أو في الزمان، وكذلك لا يتيسر له أن يغض النظر عن الروابط الاجتماعية التي تربطه بالعالم الخارجي المحيط به بحيث يغوص في أغوار نفسه ليعيش على خواطره وأحلامه، فلا يجد أمامه إلا أن يجلس مكانه عابسا متشائما، وها هي ذي قصيدة إليوت «الأرض اليباب» - التي يجعلها نقاد كثيرون رمزا للأدب المعاصر - دليل قائم على روح التشاؤم التي تغلب على هذا الفريق من الأدباء كلما نظروا إلى الحضارة العلمية الصناعية ممسكة بخناقهم مضيقة لصدورهم، واقرأ إن شئت أمهات القصص الحديثة، وتتبع أشخاصها، تجد عددا كبيرا منهم يحيا حياة قلقة تعسة شقية، سواء حقق أهداف حياته أو لم يحققها، حتى لقد تجد من جمع المال بالملايين ، وشيد من المصانع ما لا حصر لإنتاجه، ولكنه يجد نفسه آخر الأمر وحيدا بغير صديق، فيأخذه الشعور بالخيبة رغم نجاحه الخارجي، وقد ينتهى أمره إلى الانتحار.
ولا يسعنا ونحن في هذا الصدد إلا أن نشير إلى جماعتين من الأدباء الشبان؛ إحداهما في إنجلترا، وتعرف باسم «الشباب الغاضب»؛ والأخرى في الولايات المتحدة، وتعرف باسم «الحوشيين الكواسر». فأما الشباب الغاضب في إنجلترا فينبذون الماضي والمستقبل - في الحياة الفعلية وفي الأدب على السواء - ليعيشوا اللحظة الراهنة عيشا غزيرا، وهم ساخطون على كل ضروب السلطة التي قد تسد أمامهم مسالك العيش الحر الذي ينشدونه. وأما الحوشيون الكواسر في الولايات المتحدة، فهمهم الغوص في التجربة الحاضرة بكل أعماقها، لا يعبئون بمستقبل، ولا بغيرهم من الناس؛ لأن هؤلاء الناس ليسوا في أعينهم إلا وسائل يحققون بها طبائعهم، فلا قيمة لأحد عند هؤلاء الكواسر إلا بمقدار ما هو أداة لتحقيق أغراضهم الراهنة. فكلتا المجموعتين من أدباء الشبان تتفقان على نبذ الماضي والمستقبل، والوقوف عند تجربة اللحظة الحاضرة، إلا أن الشباب الغاضب في إنجلترا يختلف عن مجموعة الكواسر في الولايات المتحدة في أن الأولين يهمهم أن تكون لهم منزلة اجتماعية في الحاضر، على حين لا يعبأ الكواسر بشيء كهذا.
لكن هذه الأصداء المتشائمة في أدباء الغرب يقابلها عند أدبائنا (في الجمهورية العربية) أصداء متفائلة، برغم أن هؤلاء وأولئك جميعا محاطون بعناصر واحدة ومتشابهة من حياة العلم والصناعة، وعلة ذلك أن الغرب في انحدار بسبب العلم، والشرق (آسيا وأفريقيا) في صعود بسبب العلم أيضا؛ فالأمل هناك قد استنفدت مصادره، والأمل هنا ما يزال في أول مدارجه. المستقبل هناك عابس، والمستقبل هنا مزدهر. فلا أظن أن أحدا من كتاب القصة أو المسرحية أو المقالة عندنا يزدري الماضي والمستقبل كما يزدريه الشباب الغاضب والشباب الحوشي في إنجلترا وأمريكا. نعم، لا أظن أن أحدا من كتابنا يكتب وهو غير عابئ بالقيم، أو وهو غير عابئ بما يصيب إخوانه في الإنسانية من خير ومن شر، ولا أظن أن شخصية من شخصيات القصة الحديثة عندنا تنجح في عملها ثم تيئس فتنتحر كأنما النجاح هو نفسه الإخفاق، كما حدث للمليونير في قصة أوهارا التي عنوانها «من الشرفة».
صفحة غير معروفة