بسم الله الرحمن الرحيم العزة لله رسالة أبى يوسف يعقوب بن إسحق الكندى فى العقل
صفحة ٣٥٣
فهمك الله النافعات، وأسعدك فى دار الحياة ودار الممات! فهمت الذى سألت من رسم قول فى العقل، موجز خبرى، على رأى المحمودين من قدماء اليونانيين؛ ومن أحمدهم أرسطالس ومعلمه فلاطون الحكيم، إذ كان حاصل قول أفلاطن فى ذلك قول تلميذه أرسطالس؛ فلنقل فى ذلك على السبيل الخبرى، فنقول: إن رأى أرسططاليس فى العقل أن العقل على أنواع أربعة: الأول منها العقل الذى بالفعل أبدا؛ والثانى العقل الذى بالقوة، وهو للنفس؛ والثالث العقل الذى خرج فى النفس من القوة إلى الفعل؛ والرابع العقل الذى نسميه الثانى. وهو يمثل العقل بالحس لقرب الحس من الحى وعمومه له أجمع؛ فإنه يقول إن الصورة صورتان: أما إحدى الصورتين فالهيولانية؛ وهى الواقعة تحت الحس؛ وأما الأخرى فالتى ليست بذات هيولى، وهى الواقعة تحت العقل، وهى نوعية الأشياء وما فوقها؛ فالصورة التى فى الهيولى هى التى بالفعل محسوسة، لأنها لو لم تكن بالفعل محسوسة لم تقع تحت الحس؛ فإذا أفادتها النفس فهى فى النفس؛ وإنما تفيدها النفس، لأنها فى النفس بالقوة فاذا باشرتها النفس صارت فى النفس بالفعل؛ وليس تصير فى النفس كالشىء فى الوعاء ولا كالمثال فى الجرم، لأن النفس ليست بجسم ولا متجزئة؛ فهى فى النفس والنفس شيء واحد، لا غير ولا غيرية لغيرية المحمولات.
وكذلك أيضا القوة الحاسة ليست هى شيئا غير النفس؛ ولا هى فى النفس كالعضو فى الجسم، بل هى النفس، وهى الحاس.
وكذلك الصورة المحسوسة ليست فى النفس لغير أو غيرية؛ فاذن المحسوس فى النفس هو الحاس.
فأما الهيولى فإن محسوسها غير النفس الحاسة، فاذن من جهة الهيولى المحسوس ليس هو الحاس.
صفحة ٣٥٥
وكذلك يمثل العقل؛ فان النفس إذا باشرت العقل، أعنى الصور التى لا هيولى لها ولا فنطاسيا، [و] اتحدت بالنفس، أعنى أنها كانت موجودة فى النفس بالفعل، وقد كانت قبل ذلك لا موجودة فيها بالفعل، بل بالقوة، فهذه الصورة التى لا هيولى لها ولا فنطاسيا هى العقل المستفاد للنفس من العقل الأول، الذى هو نوعية الأشياء التى هى بالفعل أبدا؛ وإنما صار مفيدا والنفس مستفيدة، لأن النفس بالقوة عاقلة، والعقل الأول بالفعل؛ وكل شىء أفاد شيئا ذاته فإن المستفيد كان له ذلك الشىء بالقوة، ولم يكن له بالفعل؛ وكل ما كان لشىء بالقوة فليس يخرج إلى الفعل بذاته، لأنه لو كان بذاته كان أبدا بالفعل، لأن ذاته له أبدا ما كان موجودا؛ فإذن كل ما كان بالقوة فإنما يخرج إلى الفعل بآخر، هو ذلك الشىء بالفعل؛ فإذن النفس عاقلة بالقوة وخارجة بالعقل الأول، إذا باشرته، إلى أن تكون عاقلة بالفعل؛ فإنها إذا اتحدت الصورة العقلية بها لم تكن هى والصورة العقلية متغايرة، لأنها ليست بمنقسمة، فتتغاير؛ فإذا اتحدت بها الصورة العقلية فهى والعقل شىء واحد؛ فهى عاقلة ومعقولة. فإذن العقل والمعقول شىء أحد من جهة النفس، فأما العقل الذى بالفعل أبدا المخرج النفس إلى أن تصير بالفعل عاقلة، بعد أن كانت عاقلة بالقوة، فليس هو ومعقوله شيئا أحدا؛ [فإذن المعقول فى النفس والعقل الأول من جهة العقل الأول ليس بشىء واحد]؛ فأما من جهة النفس فالعقل والمعقول شىء أحد؛ وهذا فى العقل هو بالبسيط أشبه بالنفس وأقوى منه فى المحسوس كثيرا.
صفحة ٣٥٧
فإذن العقل إما علة وأول لجميع المعقولات والعقول الثوانى؛ وإما ثان، وهو بالقوة للنفس، ما لم تكن النفس عاقلة بالفعل؛ والثالث هو الذى بالفعل للنفس، قد اقتنته، وصار لها موجودا، متى شاءت استعملته، وأظهرته لوجود غيرها منها، كالكتابة فى الكاتب؛ فهى له معدة ممكنة، قد اقتناها، وثبتت فى نفسه؛ فهو يخرجها ويستعملها متى شاء؛ وأما الرابع فهو العقل الظاهر من النفس، متى أخرجته، فكان موجودا لغيرها منها بالفعل.
فإذن الفصل بين الثالث والرابع أن الثالث قنية للنفس، قد مضى وقت مبتدأ قنيتها، ولها [أن] تخرجه متى شاءت؛ والرابع أنه إما وقت قنيته أولا وإما وقت ظهوره ثانيا، متى استعملته النفس؛ فإذن الثالث هو الذى للنفس قنية، قد تقدمت، ومتى شاءت كان موجودا فيها ؛ وأما الرابع فهو الظاهر فى النفس متى ظهر بالفعل، والحمد لله كثيرا بحسب استحقاقه.
فهذه آزاء [الحكماء الأولين] فى العقل، وهذا، كان الله لك مسددا! قدر هذا القول فيه، إذ كان ما طلبت القول المرسل الخبرى كاف،فكن به سعيدا!
صفحة ٣٥٨
تمت الرسالة والحمد الله
صفحة غير معروفة