وإنما ساء فهم المادة والروح معا من تصور الأقدمين هذه وتلك، إذ وضعوهما موضع النقيضين، وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها، وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها.
فهل المادة كذلك؟
هل هذه الكثافة التي تصدمها بقدمك، وتضربها بيدك هي الحقيقة التي لا تستطيع إنكارها؟
أقول لك: كلا، إنك حين تضرب الأرض بقدمك، فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء، إنما تصدم شيئا غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودا لا يقبل الإنكار، فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى، فتصدم الحواس.
هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في أطوائها. وإن شئت مصداقا لذلك، فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف، ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة، فهل تقف عندها؟ كلا، إنها لا تقف عندها بل تعبرها كما تعبر الماء أو كما تعبر الهواء.
أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية، فادفع الماء بقوة من بعض العيون؛ إنك إذن لتضربه بالسيف القاطع فلا يمضي فيه ويرتد إليك، وادفع الهواء بقوة من بعض الفوهات؛ إنك إذن لا تثبت أمامه على قدميك.
فليست الكثافة المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها، بل القوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة، وفي كل مادة ملموسة ومحسوسة.
قال صاحبي: مهلا، مهلا، وأين هذا من النور؟ وأين هذا من سر الأسرار؟
قلت: صبرا يا صاح، إن كل جسم من الأجسام يتألف من الذرات، وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب، ثم من الحركة أو من طاقة الإشعاع والنور، تملصت كثافة المادة كلها ووصلنا إلى الشعاع والإشعاع؛ وصلنا إلى النور، واقتربنا ولا نزال نقترب كثيرا من عالم الحركة التي لا كثافة فيها، وابتعدنا ولا نزال نبتعد كثيرا من عالم الكثافة التي لا حركة فيها، إننا هبطنا بالكثافة المادية إلى أدناها، إننا نظرناها بالأحداق ثم دقت حتى عن النظر بالأحداق. نعم، إننا لم نصل إلى طرف الروح الأقصى، ولكننا وصلنا إلى طرف المادة الأقصى، أو لعلنا قد عرفنا طريق القنطرة بين العدوتين إن لم يكن قد أقمناها، وشرعنا في العبور عليها، ماذا بقي من المادة الغليظة الجاسية؟ ماذا بقي من الجرم الجاثم الذي يناقض الروحانية؟ إننا نقترب، إننا نقترب، إننا نقترب، إننا مع النور نصل إلى الملتقى الموعود، ولعلنا لا نصل إليه - إن وصلنا - من طريق غير هذه الطريق.
قل: إن الكون حركة لا مادة فيه، ذلك أيسر لك من أن تقول: إن الكون جرم لا روح فيه!
صفحة غير معروفة