أترى اليدين اللتين تلعبان بخمس كرات وسكينتين وبيضات مع الكرات، والسكينتين لا تزالان تقذفها اليمين، وتتلقاها الشمال أو تقذفها الشمال وتتلقاها اليمين؟ إنهما يدان من لحم ودم كتينك اليدين اللتين تكسران البيضة الواحدة إذا تناولتاها على غشم وجفاء. فإذا مرنت البديهة الصاغية، فقد تداول بين عشرين وزنا تتلقاها في مواقيتها، ولا تحار بين واحدة منها وواحدة كلما رجعت إليها، وإذا أخطأتها هذه المرانة - أو هذه القدرة - فقد يعنتها الوزن الواحد في غير ميقاته المحدود. ولا خطأ في الموسيقى هنا وهناك، وإنما هو الخطأ في التناول والاتباع.
قال صاحبي مبتسما: وإخالها لعبة عسرة على آذان المستمعين عندنا.
خمس كرات وبضع بيضات وسكينتان في يدين اثنتين، هذا كثير على سامعي العود والقانون في هذا الشرق «اللطيف»، إني ليائس من اليوم الذي يتجمع فيه لسماع الموسيقى العالية جمهور يعد بالمئات والألوف، كذلك الجمهور الذي يتجمع لها في أندية الأوروبيين.
قلت: إن أجلنا اليأس فلا ضير في تأجيله، فإن الأغاني الشعبية عندنا لا تزال سليمة من مرض الترهل والغواية، وهي لا تحتاج إلى مرانة كبيرة في المنشدين ولا في المستمعين، فأما الموسيقى التي لا غنى فيها عن مرانة الآذان والأذواق، فهي تلك الموسيقى العالية التي نتمنى لنا نصيبا منها كنصيب الأوروبيين أو أوفى من ذلك النصيب. وليس لنا أن نيأس من عقباها بيننا حتى نؤدي واجب المرانة المطلوبة في الجيل الناشئ تمهيدا لما بعده من الأجيال، فإذا حسنت هذه المرانة جيلا واحدا، ولم تثمر في الشرق ثمرتها المنشودة، فهناك مجال لليأس أو للشروع فيه.
ويخيل إلينا أننا لم نبدأ هذه المرانة على وجهها المفيد؛ لأننا خلقاء ألا نترقب فنا موسيقيا عاليا قبل أن نفصل بين الذوق الفني وبين المتعة الجنسية أو المتعة الجسدية، ونحن لا نزال نقبل على مجلس السماع جنسيين جسديين، يتعصب الذكور منا للمغنيات الإناث، ويتعصب الإناث منا للمغنين الذكور.
قال: وما آية هذا الفصل بين ذوق الفن وبين الغريزة الجنسية؟
قلت: آيته أن ترى السامعين يحيون السماع بغير ما ألفناه من التصدية والتصفيق، وبغير ذلك الأسلوب الناشز من الخبط والصريخ، فإن الصفة الأولى التي لا تنفصل من الموسيقى والغناء هي صفة الانسجام والتناسب بين الأصوات، ولن تسيغ الأذن الموسيقية زعيقا ولا اقتضابا، وهي تصغي إلى تناسب وانسجام. إنما السامع المصغي إلى الغناء الذي يصيح تلك الصيحات المزعجة حيوان لذعته الغريزة فجمح في غير أناة، وليس هو بإنسان يملكه جمال النسق وتستهويه متابعة النغم، ويسالك الألفة والنظام، وليس في وسع الأذن أن تكون أذنا موسيقية، ثم تنتقل من الفوضى إلى النسق، ومن النسق إلى الفوضى في لمحة عين، وليس في وسعها أن تسيغ الفن وتسيغ نقيضه في آنة واحدة، وهل الفن إلا أوزان؟ وهل نقيضه إلا الأصداء والأخلاط التي تنطلق بغير عنان؟
فالصاحب الذي تلذعه الغريزة، فيصيح ويقتضب الغناء معقول ومفهوم.
أما الذي لا يفهم ولا يعقل، فهو ذو نظام وذو فوضى ينطلقان في لحظة واحدة، ولا يزالان كذلك متقلبين مترددين في شخص واحد ساعة أو بضع ساعات.
قال: كأنما الذنب ذنب المستمعين.
صفحة غير معروفة