قال: ولعلهم من أجل هذا قربوا الصلة بين قيود الفن وقيود الأخلاق.
فندر في صورهم العري وعرض المفاتن المثيرة، وتعمدوا أن يستروا من الأجسام ما تقضي الأخلاق بستره، خلافا للسنة الشائعة في رسم الصور ووضع التماثيل.
قلت: إنهم في الواقع أقرب إلى ستر الأعضاء من غيرهم، فلم يكشفوا من عورات الأجسام إلا ما صنعوه لآلهة التناسل في المحاريب المزوية، ولكني لا إخال المسألة هنا مسألة حياء اتصف به قدماء المصريين وتجرد عنه الآخرون، وإنما كانت تماثيل المصريين الأقدمين تماثيل أشخاص معروفين لا تماثيل أجسام يتخذونها نموذجا للجسم القوي والجسم الجميل، ولا حاجة إلى عرض خفايا الجسم في تماثيل الأعلام المعروفة: أما نماذج القوة ونماذج الجمال، فيختلف الحكم عليها بعض الاختلاف - فإن إظهار العضلات والألواح، وإظهار الزوايا والمدارات، قد يتمم النموذج ويلزم المثال في أداء عمله أشد من لزوم الوجوه والرءوس.
ثم قلت: وعلى هذا ربما أدهشك كما أدهشني، حين قرأت لأول مرة، أن الأصل في ستر الأعضاء، إنما يرجع إلى الأنفة من وظائفها لا إلى الحياء من شهواتها، وأنهم كانوا يعافونها فيسترونها ولم يستروها؛ لأنهم يخشون فتنتها، فما أعجب أصول الأخلاق، وما أعجب منبت الحياء.
قال صاحبي: وكان من الذين يتحرجون ولا يمنعهم تحرجهم أن يسمعوا وجهات الأنظار: من أي منبت نبت فهو اليوم فضيلة من كبريات الفضائل، أو لعله اليوم أصل الفضائل جميعا؛ فلماذا يكشفون ما ينبغي أن يستر، ولماذا يلزمون تماثيل الناس قلة الحياء، وهم يطلبون الحياء من الأصل الأصيل!
قلت: أولى لهم أن يستروا ما يعاب كشفه ولا حاجة إلى إبدائه، وعلى أن المثالين قد خدموا الأخلاق من حيث لا يريدون، حين عودوا الناس أن ينظروا إلى الجسد الواحد نظرات متعددات؛ لأن النظر للشهوة وحدها معيب كعيب الخلاعة والابتذال، وما زال العزل بين أنواع الشعور ثروة لنفس الإنسان تخرجها من فاقة الطبع إلى غناه، فالطبيب ينظر إلى جسد المرأة الحسناء، فينسى الجمال والشهوة ويذكر الطب والرحمة، والرجل ينظر إلى أخته أو ابنته، فينسى أنها امرأة من جنس النساء ويذكر الحنان والمودة، والممثل يقبل الممثلة وينسى لذة التقبيل ليذكر براعة التجويد والإتقان، والعينان اللتان تبصران ألف جسد على شاطئ البحر في كساء الحمام لا تفتنان كما تفتنان بجسد واحد في مثل هذا الكساء بين الجدران، فإذا تعود الناس أن ينظروا إلى التمثال، فيذكروا جماله واتساق أعضائه، وتناسق أوصاله ينسيهم ذلك أنهم من ذوي الشهوات بضع لحظات، فهم كاسبون في الأخلاق فضلا عن الأذواق، وليسوا بخاسرين.
وعاد صاحبي إلى ترتيب المكتبة الذي بدا لأول وهلة أنه لا يعجبه، ولا يريحه ولا يتيح له أن يجد طريقه فيه؛ لأنه أعرض عن كتب الصور والتماثيل، ومد يده إلى بعض الكتب التي تجاورها على رفها، فإذا هي في المنطق وما إليه. قال: ما هذا؟ أمن بيكاسو وأروزكو وبراك وتماثيل الفراعنة والجرمان إلى أرسطو وكانت وهيوم؟ لم أر موضوعا أبعد عن المنطق من موضعه في هذا المكان.
وكانت هذه الملاحظة وأشباهها ما تفتأ تعاد من كل زائر طرق هذه الحجرة، ونظر في كتبها ورفوفها، ولم تكن بي حاجة إلى بيان عنها؛ لأن البيان الوحيد أنني أجددها كل حين، ولا أملك أن أرتبها كل حين، وأنني مع هذا لا أضل فيها عن طريق كتاب أريده منها، فما حاجتي إلى ترتيب لها غير هذا الترتيب؟
ولكنني رجعت بصاحبي إلى المنطق الذي احتكم إليه، فقلت: وهل يقضي المنطق بغير ما تراه؟ ما الحاجة إلى عناء الترتيب والتبويب إن كنت بغير ترتيب ولا تبويب تدرك ما تريد؟ وأي ترتيب ينتظم في هذه الحجرة من ناحية إلا ليختل من ناحية أخرى؟ أترتيب الحجم أو الموضوع أم تاريخ الاقتناء أم المؤلفين! ولم العناء؟ إن المنطق الذي تحتكم إليه أسباب وعلل؟ فهل من سبب وهل من علة؟
قال: لست على المنطق بغيور، فاصنع به ما تشاء وضعه حيث تشاء، وما جدوى المنطق في المكتبة، وما في الحياة من منطق يعقله العقلاء.
صفحة غير معروفة