ذهبت مع أصحاب إلى المتحف المصري أشهد للمرة العاشرة نفائس قبر توت-عنخ- آمون، واثقا من الكشف فيها عن دقائق جديدة من آثار الفن القديم. وفيما نحن متأهبون للخروج لقينا صديق مغرم بتاريخ أسلافه الأولين، فلا يكاد ينقضي أسبوع دون ذهابه إلى المتحف: يتحدث فيما يقول، إلى أجيال وأجيال حشرت بعد بعثها في هذا القبر غير اللائق بها. ويأمل أن يطهرها هذا العذاب من إثم قد يكون لصق بها حين حياتها، ويرجو أن لا يطول أمد تفكيرها، وأن تنقل إلى أقداس تليق بجلالها ... فاستوقفنا برهة ثم دعانا لنصحبه في تحية أوجب على نفسه أداءها، كلما حضر، إلى معبود آبائه العجل أبيس. فلما كنا في حضرة التمثال المقدس وقف برهة صامتا، ودلت حركة شفاهه على أنه كان يتلو بعض صلوات لا شك فرعونية. فأثارت حركته دهشة شاب كان معنا فتح عينيه واسعتين وحملق بتمثال العجل وبنجيه، ثم أدار نظره فينا فألفانا في شغل بما حول العجل من تماثيل. ولاحظ المصلي دهشة الشاب فالتفت نحونا بعدما أتم صلواته وقال: لعلكم تعجبون لما أصنع. أما أنا فلا أرى محلا لعجب. لقد كان أبيس رمز الخير والبركة. فكانت عبادة آبائنا له دليلا على أنهم يقدسون من الحياة خيرها وبركتها. ومن أجدر بالتقديس والعبادة ممن يدر الخير والبركة على الناس؟ «وما أخالكم تذكرون قصة أبيس وعبادته عند آبائنا. فقد كانوا يجعلون لهذا الحيوان المخصب خير صفات الآلهة ...»
وهنا اتجه إلى صاحبنا الشاب ومضى في حديثه: ولا تحسب يا صديقي أنهم كانوا يعبدون كل عجل رأوه أو أن كل عجل كان عندهم أبيسا. ولو أنهم فعلوا هذا لطعن في عملهم الجم ومدينتهم الفاضلة. فالعبادة لا تجوز إلا للكامل حيث تجتمع صفات الفضل طرا. وكل عجل معرض لأكثر من واحدة من نقائص الناس. والرجل الكامل جدير بإعجاب الناس به. والعجل الكامل جدير بأن يكون رمز هذا المعنى الذي تجب عبادته: معنى خير الحياة وبركتها؛ لذلك كان للعجل الإله عند آبائنا ما يميزه على العجول جميعا، فهو لم يكن يولد كما يولد كل عجل من كل بقرة اقترب منها ثور. بل كان أجل من ذلك نسبا وأقدس أصلا. كانت نار سماوية تهبط فتنفخ في بقرة عذراء من روح القدس، فتذر الإله في حنايا ضلوعها حتى إذا ولدته وجب أن لا تلد بعده أبدا. ... وليطمئن آباؤنا إلى أن روح القدس وحدها هي التي لامست البقرة العذراء، وجب أن تكون لابنها صفات كل أبيس سبقه. وأبيس يجب أن يشتمله السواد، عدا غرة مثلثة في جبينه وأخرى في صورة الهلال على جنبه الأيمن. ويجب أن تكون تحت لسانه عقدة كالجعران شكلا، وأن يكون شعر ذنبه ذا لونين؛ وأن تجتمع له إجمالا وتفصيلا ما فرضه العباد على آلهم من صفات. ... فإذا نحى الموت أبيسا عند قدس زريبته وأذن مؤذن بميلاد أبيس جديد ذهب رهط من كبار رجال الدين، فاستوثقوا من كمال صفات الإله الوليد، ثم أقاموا حيث ولد زريبة تطالع مشرق الشمس؛ ليمضي فيها مدة رضاعه أربعة أشهر. ومتى انقضى هذا الزمن وكان هلال جديد وضع العجل في مقصورة مذهبة فوق قارب كبير، ونقل إلى مدينة «نيلوبوليس» حيث يستقر أربعين يوما. ولا يقترب من الإله في فترة هذا المقام غير النساء، يجئن إليه من كل الأنحاء راجيات خصب أرحامهن، فيتجردن في حضرته على صور وأوضاع يأباها عرفنا وعرفهن في الحياء. وبعد هذه الأيام الأربعين يقفل معبد العجل دونهن، وينقل أبيس إلى مقره الأخير بمنفيس في مقام بالغ غاية الفخامة، وتبقى أمه معه في زريبة متصلة بقدسه يخلع عليهم بعض شرفه الديني. ولا تقربه من البقر إلا واحدة مرة في كل عام لتكون لربوبيته متاعا ولذة، ويقضي على هذه البقرة السعيدة في يوم سعدها، أن ليس يليق بالإله أن يكون له نسل كنسل الثيران جميعا.
عند هذا الموضع من حديث صاحبنا جاء قوم وقفوا إلى جانبنا أمام تمثال العجل المقدس. فآثرنا الخروج من المتحف، وألقينا نظرة على ما حولنا من تماثيل وألواح من الحجر والصخر، ورفعنا أبصارنا إلى الطابق الأعلى لتتصل نفوسنا بموميات آبائنا الخالدين. ثم خرجنا وكانت الشمس المنحدرة إلى المغرب ترسل أشعتها الرفيقة على الفضاء المنبطح أمام المتحف، فتبعث إليه من حياة الحاضر ما يوقظ النفس بعد ساعات نسيت فيها الحاضر بين الماضي وغياباته. وتخطينا الباب الحديدي الكبير، وسرنا ميممين فندق سميراميس، وأتم صاحبنا حديثه فقال: وكانت غاية حياة أبيس القديس خمسة وعشرين سنة. فإذا لم ينفق بالموت قبل انتهائها أغرقه رجال الدين في بئر لا يعرفها سواهم أعدت لإغراق كل أبيس يخالف التقاليد ويتشبث بالحياة. ثم أذاعوا في الناس أن الإله قضى على نفسه منتحرا. فأما إن هو لم يتخط التقاليد ومات قبل الخامسة والعشرين فقد حق له أن يدفن بما يجب لإله مثله من مظاهر العظمة والألم. فيحلق المصريون جميعا رءوسهم ويلبسون ثياب الحزن، ويشيعون جثمانه المقدس إلى «سيرابيس»، ويظلون مرتدين سوادهم حتى يجيء أبيس جديد يخلفه في قدسه.
كذلك قال صاحبنا، وكانت لهجته تشهد بتبجيله للعجل المقدس، وبمشاركته آباءه الأقدمين في إحاطتهم معبودهم بمجالي الربوبية. وهنا أبدى الشاب من الضجر ما دل على تحفزه للقول. ثم قال: ليس من ينكر على مصر الفراعنة براعتها في العلم والفن. وكل كشف جديد عن آثار هذه المدنية الخالية يزيد العالم إيمانا بعظمتها وقوتها، ويدل على مبلغ ما كان لأسلافنا من نشاط تصغر أمامه كل مظاهر النشاط في مدنية اليوم. وهذا الذي رأيت اليوم لأول مرة من آثار توت-عنخ-آمون يفرق في بهائه ودقته كل ما ذكر عنه، وينهض حجة على أن الحقيقة في بساطتها قد تبلغ من الجمال حدا تصبح معه المبالغة في وصفها هراء وسخفا. ... ولقد أذكر يوما اجتزت فيه الصحراء من ناحية البدرشين مع صحب يشبهونكم في الظرف والرقة قاصدين صقارة؛ فقطعنا على ظهر الدواب فراسخ وأميالا تحيط بنا المزارع والرمال، وتظللنا سماء صفو منذ القدم، لم تخضع لحكم الضرورة الذي تخضع له العوالم كلها، وتقابلنا أحجار وتماثيل طبع الزمن على صحائفها آثارا من البلى تزيدها حياة وتجعل من صمتها حديث العصور الخالية. وقد استوقفنا من هذه التماثيل كثير يحدث عن ذوق القوم للفن وعبادتهم للجمال. وإني أشهد ما تأثرت لمنظر تأثري حين بلغنا من طريقنا موضعا رأينا فيه تمثال رمسيس الكبير ملقى على جانب الطريق وقد جل عن أن يختلط بتراب الأرض فنام فوق مخادع من الحجر ووضع تاجه إلى جانبه. عند هذا التمثال وقفت طويلا وسمعت في أعماق نفسي صوتا يخاطب صورة الملك العظيم بهذه العبارة: «ترى في أي ميدان من ميادين منف الخالدة الأثر كنت تقوم أيها التمثال الفخيم؟ وعلى أية مدنية فرعونية كانت تطل عيناك الحجريتان؟ وكيف كان الناس من أهل تلك العصور ينظرون إليك وإلى تاجك الملقى الآن عن هامتك الملوكية؟ وكان يومئذ فوقها عزيزا. أكانوا ينظرون بعين الطلعة التي ننظر بها نحن؟ أم كانت عيون إعجاب وإجلال وخضوع وعبادة؟ وصاحبك الخالد رمسيس، صاحبك الذي لن يعدو الدهر على ذكراه كما عدا عليك، فدك عرشك وحطم سيقانك وطرحك على ظهرك، وألقى بتاجك في الأرض؛ صاحبك صاحب الروح الكبيرة؛ صاحبك ابن الشمس ومحبوب آمون وعطارد والآلهة؛ صاحبك المظفر الراكب عربة الحرب يطارد بها عدوه الهزيم؛ صاحبك مليك مصر العزيزة بأمر الآلهة وعيونهم؛ أين روحه الآن لترفرف على مصرنا، فتنفخ فيها روح قوة ومجد وعزة؟» ... هذا الخطاب النفسي لتمثال رمسيس، وإعجابي الخالص بآثار طيبة، يظهرانكم على ما أشعر به نحو آبائنا الفراعنة أصحاب المجد الخالد. لكني أعجب حتى لا أكاد أصدق أن شعبا ذلك مبلغه من العظمة والرقي يؤمن بأوهام كالتي تروى عن أبيس وعن غير أبيس من الآلهة، ويسلك في عبادته طقوسا يراها أكثر الناس اليوم سذاجة بالغة في السخف حد الهوس.
أتم الشاب حديثه فأجابه صاحبنا: أنت مخطئ يا صديقي الشاب. وأنت مجدف أيضا. فإن أبيسا لم يكن عجلا كالعجول. بل كان كما ذكرت نفحة من روح القدس. وكانت له معجزات تنفي كل شك في ربوبيته أيام كانوا يعبدونه. فقد حفظ التاريخ أن آباءنا كانوا يقيمون في كل عام عيدا لميلاده بمنفيس يجمعون فيه كل لذائذ الحياة سبعة أيام تباعا. وكانوا يبدأون عيدهم بأن يقذفوا في مكان معين من النيل وعاء من ذهب أو من فضة. فكانت التماسيح تمسك مدى هذه الأيام السبعة عن أن تؤذي أحدا. فإذا كان اليوم الثامن عادت إلى افتراسها. فهل ترى هذه الحيوانات المائية الضخمة كانت تغير طبعها لولا سلطان العجل. ولا تقل إن إمساكها ربما كان سببه فرضها الصوم على نفسها أياما خاصة من السنة. فقد كان عيد الميلاد يتغير كلما تغير العجل. أي كل خمس وعشرين سنة أو أقل من ذلك. ... ومعجزات أبيس كثيرة. فقد ذهب العالم الفلكي «أيدوكس» لزيارته يوما فاقترب العجل منه ولحس أسفل ردائه. وفسر رجال الدين هذا المظهر بأن أيدوكس سيكون ذا مجد قصير الأجل. وكذلك كان. ورفض أبيس أن يتناول الطعام من يد جرمانيكوس فدل بذلك على خاتمة هذا الأمير السيئة. وكذلك كان. ... فهل ترى من حقك بعد ذلك يا صديقي أن تجدف في حق إله ذلك سلطانه وتلك مقدرته؟
فعلت ثغر الشاب ابتسامة وهز أكتافه وقال: عجل يعبد! ثم يقال إن إنكار عبادته على أنها سخف وهوس تجديف غير لائق بالآلهة! أليس ذلك مضحكا يا سيدي؟
تولى الجواب عن صاحبنا أخ لنا لا يزيد علينا في السن، لكن شيبا انتشر في رأسه يذكر هو أن الخوف سببه جعل مظهره أكثر هيبة ووقارا . قال: ألم يقل لك صاحبنا إن أبيس لم يكن عجلا كالعجول أن حملت أمه من طريق قدسي! وأي سخف في أن يحاط جلال عجل بالأوهام الطيبة لكي يتصل ما بينه وبين إيمان السواد. أليست الأوهام التي نحتقرها في الجماعات القوة الكمينة الخالدة التي توجه نشاطها - متى كانت طيبة - إلى الصالح المفيد. وهل كان آباؤنا يعبدون في أبيس العجل الأسود الأغر المثىي لون شعر ذنبه لتكون عبادتهم له سخفا وهوسا. كلا. بل كانوا يعبدون فيه رمز النيل مدر الخير والبركة. كما أنه كان لباس أوزوريس وصورته الحية، وأوزوريس كما تعلمون إله الخير والفضل والسلام. وهذه كلها معان جديرة بالتقديس والعبادة.
قال الشاب: هب يا صاح هذه المعاني جديرة بكل تقديس؛ لأنها أكثر المعاني اتفاقا مع عبادتنا للحياة وفطرة الاحتفاظ بها، فما صلتها بأوزوريس وأبيس؟ ولم لا تخلع عليها القداسة في جمال تجردها من غير أن يلبسها عجل أو غير عجل من سائر الحيوان؟
فأجاب الأشيب: وهل العبادة والتقديس إلا الإعجاب يملك النفس ويبهرها، ويأخذ عليها كل مسلك الشعور والحس؟ أتراك إذا ذهبت إلى حيث يتولد من الكهرباء ما قوته مائة مليون حصان، ورأيت إلى جانب هذا النبع من القوة ما يديره من العدد والماكينات وما تنتجه هذه العدد من ثمرات، أتراك بعد ذلك إلا مأخوذا عن نفسك ذاهلا لعظم ما ترى؟ فإذا قصصت ذلك على غيرك وكانوا يعيشون من ثمر هذه القوة، فهل تراهم إلا يقدسونها ويسبحون بحمد من أجراها. كذلك كان شأن السواد من آبائنا فيما قصة عليهم ذوو الرأي منهم من قصص أوزوريس وإيزيس وأبيس وسائر الآلهة.
قال صاحب أبيس: ما أحسبك قد بعدت عن الحق كثيرا يا أخي. وقد قصصت عليكم من أمر أبيس شيئا. وهاكم حديث أوزوريس لتروا وليرى أخونا الشاب أن عبادة آبائنا لم تكن سخفا وهوسا: ولد أوزوريس من الإله جب (الأرض) والإلهة ناوت (السماء)، حين أدرك هذين الإلهين الهرم فعجزا عن قمع وحشية الناس وشرهم. ولما كبر تزوج من أخته إيزيس وجلس على عرش المصريين، وصار ملكا على الآلهة والناس جميعا. وقد استطاع بفضل الجمال والعلم والصلاح أن يتغلب على شر الناس وأن يردهم إلى السلم، وأن يعلمهم صناعاته. فعرفوا الزرع وطمعوا من جوع، واتخذوا من المعادن أسلحة يفلحون بها الأرض، ويتقون بها عادية الحيوانات المفترسة. وبمعونة الإله توت علمهم الأسماء كلها والفنون وفائدتها. ثم ترك لإيزيس حكم مصر وسار على رأس جيش لهداية أهل الأرض جميعا. لكنه لم يكن بكبير حاجة إلى هذا الجيش؛ فقد سحر الناس بعبارة الإله وكلماته، وبهرهم الرقص، واستولت على ألبابهم الموسيقى. وكذلك تم للخير والفضل حكم العالم.
صفحة غير معروفة