على كل حال يرى القارئ أني أعلق الأهمية الكبيرة على الكاتب، أريد أن يظهر هو بشخصه في كتابته. وإنما يكون ذلك بأن يبدع فيها شيئا جديدا في اللفظ أو في المعنى يميزه عن غيره ويجتذب إليه قارئه. حينذاك يكون صاحب أسلوب متين وكاتبا مقتدرا.
هذا النوع من الكتاب قليل الوجود في مصر. ذلك بأن أكثر كتابنا لا يفكرون، بل هم ينقلون أفكارا قديمة يضعونها بعضها جنب بعض، وينقلونها أغلب الأحيان بالكلمات التي قالها بها أصحابها. فكل ما لهم من الفضل في كتابتهم هو اختيار وترتيب هذه الأفكار والألفاظ. أما الكاتب المنطقي الذي يبدأ من مبدأ معين في نفسه، ويستمر يرتب بعد ذلك نتائج هذا المبدأ واحدة بعد الأخرى، كما هي مرتبة في رأسه ليصل أخيرا إلى النتيجة المطلوبة ، والشاعر الذي يستمد الخيال من المناظر والحوادث والأشياء التي حوله، والقصصي الذي يرى الناس وأحوالهم وينقل منها صحيفة تطابق الأثر الذي تركته هذه الأشياء في نفسه - على العموم الكاتب الذي يريد أن يخاطب الناس بما يرى هو، يكاد يكون غير موجود في مصر.
جرجي أفندي زيدان من الكتاب الذين يتوخون في كتابتهم أن ينقلوا للقراء فكرتهم (بألفاظ خالية من الركاكة والتعقيد)، وتلك إحدى فضائل الكتابة عنده. غير أنه يرى التعمق في الأفكار أو التعمق في الألفاظ خروجا على قاعدة الكتابة للمصلحة العامة. أي إنه يرى أن الكتابة للمصلحة العامة يجب أن تكون من البساطة، بحيث تكون في متناول كل الأفهام. وبما أن مستوى كل الأفهام هو دائما غير راق فهو - إما مريدا أو بميله الطبيعي - يجعل كتابته دائما قريبة من هذا المستوى.
قلنا: إن لجرجي أفندي زيدان أكثر من خمسة وعشرين كتابا في التاريخ تقع في أكثر من ثلاثين مجلدا، وقلنا: إن الظاهر أن مراده نشر المعرفة، فهو يكتب بما يعتقده أسلوب النشر. وبما أن الذين سبقوه لذلك قليلون جدا، وبما أنه يريد مخاطبة المجموع، فهو معذور إن بقي أسلوبه غير ذلك الأسلوب العذب الجذاب الذي تمتاز به اللغة السهلة، ما دامت فيه صفة الوضوح التي تمكن كل الناس من فهم ما يريد.
ويظهر غرضه أيضا في طريقة تأليفه. فهو في الغالب يجيء بالأفكار والحوادث العامة؛ ليخرج قارئه منه بفكرة عامة في تاريخ الأمة التي قرأ ما كتبه جرجي أفندي زيدان عنها. وهو لا يقف عند الحوادث الصغيرة يريد أن يستفسرها عن معنى الحوادث الكبيرة؛ لأنه - على الأقل فيما يظهر من كتاباته - يرى ذلك غير ضروري لعامة القراء. فإذا أنت جئت على كتاب من كتبه لم تصل إلى العلم بدقائق ما كتب عنه، ولكنك تكون قد عرفت الأفكار العامة التي تفسر الحوادث العامة التي شرحها لك.
وربما ساق جرجي أفندي غرضه أحيانا لأن يكون ناصحا أو أخلاقيا. فتراه في كلامه يمدح الفضائل بطريقة تحبب فيها، وإن يك من طرف خفي ؛ مما يدل على حسن اقتداره. لكن ذلك من شأنه أن يجعله أحيانا يقع في أغلاط تاريخية كان من السهل تجنبها. •••
لما تكلم المؤلف عن تاريخ آداب العرب قسمها باعتبار الأزمان التي وقعت فيها. فزمن الجاهلية ثم زمن الراشدين ثم الأمويين ثم العباسيين ... إلخ. وهذا التقسيم حسن يؤدي إلى الغرض الذي يرمي إليه المؤلف من تعميم معرفة هذا التاريخ أحسن من أي تقسيم آخر؛ ذلك لأن الذي يطلب الاطلاع على نوع معين من أنواع الأدب وكيفية تقلبه على مختلف عصور التاريخ، في الغالب يريد أن يتعمق في هذا الباب قدر المستطاع، وذلك كما بينا ليس هو غرض جرجي أفندي زيدان.
متابعة له في هذا التقسيم نرى أن نسير في نظرنا إلى الكتاب متتبعين هذه العصور المختلفة من تاريخ الأمة العربية واللغة العربية: (1) عصر الجاهلية
والآن نبدي نقدنا على ما يستحق النقد في كتاب جرجي أفندي زيدان عن عصر الجاهلية. ونبدأ فننقد الصورة التي وضع بها معارفه التمهيدية. فإن الذي يقرأها يكاد يتصور أن عرب الجاهلية، على أنهم قوم بدو رحل، قد بلغوا من العظمة في العلم والأخلاق والسياسة ما يناهض أرقى الأمم في القرن العشرين. وذلك أمر لا يسهل تصديقه، خصوصا وأن المؤلف لم يتقدم لتأييده بحجة قاطعة، بل بنى رأيه على استنتاجات ظنية أخذها عن مقدمات يمكن تفسيرها بشكل مختلف عن تفسيره هو إياها كل الاختلاف، وإلى القارئ مثلا من ذلك. قال المؤلف عن ارتقاء الجاهليين في السياسة والعمران: «على أنك إذا نظرت في لغتهم تبين لك أن أصحابها من أرقى الأمم سياسيا واجتماعيا، وإن عرفناهم بدوا رحالة - واللغة دليل أخلاق الأمة ومرآة آدابها وسائر أحوالها - ومن المقرر أن اللغة لا تتولد فيها كلمة إلا للتعبير عن معنى حدث في أذهان أصحابها. فإذا وجدنا في لغة من اللغات اسما لنوع من اللباس نحكم قطعيا أن أصحابها عرفوه أو لبسوه، أو نوعا من الأطعمة عرفنا أنهم أكلوه. واللغة العربية من أغنى لغات الأرض بالألفاظ العمرانية والسياسية. إن فيها عشرات من الألفاظ لضروب الجماعات من الناس على اختلاف أغراض اجتماعهم، وعشرات منها عن فرق الجند، وفيها للتعلم والورق عشرات من الأسماء والألقاب، ولكل منها معنى خاص.»
ولست أدري كيف يفسر بذلك رقي العرب الجاهليين في السياسة والعمران. العرب الجاهليون بطبيعة حياتهم البدوية ينقسمون إلى قبائل كبرى وصغرى، ومن شأن ذلك أن يستدعي اختلافا في تسمية كل نوع من هذه القبائل، خصوصا وأن التعداد المضبوط الذي نعرفه نحن لم يكن معروفا عندهم. كما أن اختلاف القبائل كان يجعل كل قبيلة تجيء باسم مخصوص لشيء له اسم آخر في قبيلة أخرى، فإذا ما تقاربت القبيلتان استعارت كل واحدة منهما كلمة جارتها وخصصتها لمعنى. وهذه هي الأسباب أيضا في تعدد أسماء فرق الجند، أضف إلى ذلك ما في طبائع العرب من الغزو. كما أني لا أظن المؤلف يقول إن ما عند العرب من أسماء فرق الجند يزيد على ما عند الأمم الراقية اليوم.
صفحة غير معروفة