على أنا آخر الأمر لا نستطيع أن ننكر على السيد فريد وجدي أنه بذل مجهودا كبيرا لإقامة بناء فخيم. وإذا لم يكن قد صادفه ما يرجوه له محبو العلم الصحيح من توفيق فليس ذلك ذنبه. وإذا كان قد أجهد نفسه فنظم الأنقاض كل لون إلى لونه وكل شبيه إلى شبيهه من غير أن يتمكن من تنسيقها، لما ينقصه من روح النظام، فقد يكون لسواه أن يخرج من مجهوده هذا خيرا للناس، وأن يعترف لصاحب دائرة معارف القرن العشرين بفضل السعي للخير وللإحسان.
الدكتور طه حسين (1)
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
ما أقل ما يظهر في عالم الأدب من الكتب القيمة المؤلفة أو المترجمة، وما أشدنا في مصر إلى هذه الكتب القيمة احتياجا. وإذا كان لنا أن نعود باللائمة لهذا الفقر على أحد فأكثر الناس استحقاقا للوم أولئك الذين عهد إليهم في العصور الأخيرة بواجب القيام بإيفاء علوم الأمة حقها من العلم والأدب، فقصروها على علوم الصناعات والحرف، وتركوا روحها بذلك فجة وعقلها راكدا، فلم تستثر حمية مؤلف ولا همة كاتب.
على أن ما عنيت به الجامعة المصرية في السنين القريبة من العمل لنقل العلم والأدب إلى مصر قد بدأ يخرج ثمره وزهره. ولأول مرة تقدم أحد أبناء الجامعة البررة إلى الشعب المصري بكتاب غير رسائل الامتحان، فأخرج الدكتور طه حسين صحائفه المختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان، ونشرها على الناس.
ليس بنا من حاجة للكلام عن الدكتور طه ولا لبيان طريقته في التأليف. فقد عرف القراء رسالته في ذكري أبي العلاء ومسلكه في تحليل نفسية الشاعر ورده مختلف آرائه وأفكاره وأساليبه إلى الوسط الزماني والوسط المكاني الذي عاش فيه. وهذه هي بعينها الطريقة التي اتبعها في رسالته عن ابن خلدون التي قدمها لجامعة باريس لجواز دكتوراه الأدب. وهي الطريقة العلمية التي تبعث للنفس صورة صحيحة من شخص الشاعر أو الكاتب أو الفيلسوف الذي يراد تحليله. ذلك بأن الفرد لا وجود له بذاته، وإنما وجوده بالوسط الذي يعيش فيه. فتفهم ومعرفة البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية والحالة التاريخية وما كان على أثر ذلك من عقائد وعوائد وأفكار وعواطف واتجاهات ذلك كله، وذلك وحده هو الذي يسمح لنا بفهم أي كاتب أو شاعر أو فيلسوف وأي رجل آخر له صلة بالمجموع فتأثر به وأثر فيه.
كذلك يعرف القراء أسلوب الدكتور طه حسين. يعرفونه من تعاليم الرجل حيث نشأ في الأزهر، ثم انتقل إلى الجامعة المصرية، وإلى أوربا، فجمع في لفظه بين المتانة والدقة. ويعرفونه من طريقة تفكيره التي هي داخلية دائما لا تؤثر فيها مظاهر الطبيعة ولا أحداثها؛ مما يضيف إلى متانة الأسلوب ودقته سكينة وعمقا وهدوءا تمنع عليه سبيل الاندفاع التخيلي، وتقف به دون الارتفاع إلى شواهق الوجدان. ولعل التطورات التي يمكن ملاحظتها على هذا الأسلوب بالغة في إقناعنا بأن أسلوب صديقنا يسير دائما في سبيل السلاسة الجزلة والسهولة المتينة من غير احتياج لتدفق ولا انقباض.
هذه الطريقة هي التي سار عليها في المقدمة الصغيرة الثانية التي وضعها في صدر كتابه الذي وضعنا اسمه عنوانا لهذا المقال، وفي الكلمتين الممتعتين عن إيسكولوس وسوفوكليس. وهذا الأسلوب هو أسلوبه فيما ألف منه وفي أكثر ما عرب.
والكتاب موجز بديع يعطي فكرة عامة عن اليونان وعن شعرها التمثيلي. وناهيك باليونان وبأثينا القديمة. فهما مصدر المدنية الأوروبية الحديثة والوحي المباشر لأبدع ما خطت أقلام شعراء العصور الأخيرة الخالدين. فشاكسبير وراسين وكورني وكثيرون جدا غيرهم من كبار كتاب (التمثيل) مدينون مباشرة لأثينا ولرومة. ويكفينا هذا لنقطع بأن كل ما يكتب عن اليونان يستحق قراءته والإمعان فيه.
لكن مختارات الدكتور ليست أي شيء من كل ما يكتب عن اليونان. بل لها ميزة خاصة تجعل قراءتها أكبر فائدة وأكثر إمتاعا، وتضعها في الصف الأول بين ما يقرأ لفهم الروح اليونانية والحياة التي غذتها هذه الروح؛ ذلك بأنها صادرة من رجل تخصص لدراسة الأدب والفلسفة، وما إليهما من مظاهر الحياة العقلية اليونانية. وتخصص لهذه الدراسة لأنه أعجب باليونان، فشربت نفسه مشاربهم، وألهمت روحه بديع معانيهم، وأوصله التحليل العلمي إلى تعرف الأسباب التي ألهمت العقل اليوناني ما أفاض به على عصره وبلاده، ثم على كافة العصور والبلاد التي أخذت من المدنية بطرف أو ضربت فيها بسهم ونصيب.
صفحة غير معروفة