وكانت هذه الحال العصبية المحتوية نفسها مرتبة حياته الخاصة، كما كانت مصدر أعماله جميعا. كانت منبع سعادته ولذته وأمله، وسبب آلامه ومتاعبه، ومصدر كتاباته وأفكاره، وأساس أحكامه وقضائه، فكأنما كانت أعصابه أوتارا تتأثر بملامسة الحوادث تأثرا سريعا ينقل إلى نفسه الإحساسات المختلفة، وينقل إلى الخارج مظاهر هذه الإحساسات على النظام الذي تعطيها إياه قوة ملاحظته الحادة الدقيقة.
عاش قاسم أمين حياة لم يتخللها حادث غير عادي يجعل لها صبغة غير مألوفة. دخل المدارس في مصر ثم سافر مع إرسالية الحكومة إلى فرنسا، فلما عاد منها اشتغل في وظائف قضائية انتهت به إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، وبقي في هذا المنصب حتى آخر حياته.
لكنه مع ذلك لم يكن الشخص العادي في أي طور من هذه الأطوار؛ فلقد امتاز في فرنسا بحدة في الذهن لفتت إليه أساتذته. وإني لأذكر الساعة يوما كنت فيه مع الأستاذ «لرنود» أحد أساتذة كلية الحقوق في باريس، ومال بنا الحديث إلى المصريين فذكر لي قاسم بشيء من الإعجاب ملأني كمصري غبطة، وكمعجب بقاسم سرورا، أن شاركني في إحساسي عالم كبير، كما أنه امتاز في القضاء بحسن ذوق غير متعارف، وبدقة في التقدير أكسبته ثقة زملائه وعطفهم. كذلك لم يشاركه في حياة مصر العامة مشارك؛ لم يقم معه قائم بمبدأ جديد بتلك الثقة بالنفس وهذه القوة في العقيدة. وهذا الامتياز في درجات الحياة التي مر بها راجع إلى حالته النفسية؛ إلى تلك الحال العصبية الحساسة.
فلم تكن تقابله مسألة مهما تكن من البساطة إلا تأثر بها وارتسمت في مخيلته، واستدعت منه النظر والفكر واهتزت نفسه لها؛ فتلك امرأة محجوبة تسير في شارع الدواوين مبرقعة كما يسير آلاف غيرها، ولكن يظهر من هيئتها أنها من عائلة كبيرة، فنرى عيون قاسم الواسعة تحدق بها، لماذا؟ لأن إحساساته تأثرت، ونفسه تغيرت، أن رآها «تمشي خطوات مرتبة يهتز معها جسمها مائجا كما تفعل الراقصة على المسرح، وتخفض جفونها بحركة بطيئة وترفعها كذلك، وترسل إلى المارة نظرات دعابة ورخاوة واستسلام يجعل مجموعها تحريضا مهيجا لحواسهم». هذا هو أثر حي أمامه من آثار الحجاب الذي يحار به، وهذه هي الصورة التي يدعي خصومه أنها مثال ذلك النظام الذي وضعته العادة محافظة على العفة. أفلا يرى الناس هاته المرأة أمامهم تكذب كل ما يزعمون؟
وتلك بعض الحوادث في عمل القضاة لا تتفق مع وجدانه وضميره؛ حوادث يأتيها بعض زملائه لسبب قد يعرفه وقد لا يعرفه؛ قضايا يحكمون فيها أحكاما لا تتفق مع المألوف، فإذا كان لا يستطيع أن يعين هذه القضايا، فإنه يعجز عن أن يسكت نفسه دون أن تصيح: «أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل.»
ويتوفى صاحب اللواء وتمر جنازته في الشوارع، ويشهدها قاسم ويرى تلك الجموع الحاشدة التي تسير فيها جامعة مختلف طبقات الأمة وأهالي بلادها المختلفة، مظهرة اتحادا في الشعور، فتهتز أعصابه وتمتلئ بالأمل نفسه المحزونة، ويرى أن «الإحساس الجديد، هذا المولود الحديث الذي خرج من أحشاء الأمة، من دمها وأعصابها، هو الأمل الذي يبتسم في وجوهنا البائسة، هو الشعاع الذي يرسل حرارته إلى قلوبنا الجامدة الباردة، هو المستقبل».
وكانت هذه الهزات العصبية تترك في نفسه صورا مضبوطة من الحوادث أو المظاهر التي أنتجتها؛ فالمرأة التي رأى في شارع الدواوين «طويلة القامة ممتلئة الجسم عمرها بين العشرين والثلاثين في وسطها حزام جلد مشدود على خصر رفيع ... وعلى وجهها قطعة من الموسلين الرقيق أقل عرضا من الوجه تحجب فاها وذقنها حجابا لطيفا شفافا ... وتترك الحواجب والجبهة والشعر والرأس إلى منتصف الشعر مكشوفة».
وقد رأى مدة وجوده في فرنسا طفلا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبه على فرقة من العساكر الفرنسوية وهي عائدة من حرب التونكين، «فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام، ورفع قبعته وحيا العلم وصار يتابعه بنظره حتى غاب عنه». أمام هذه الصورة المضبوطة من جاره وحركاته أحس قاسم «أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه، وأثار فيه جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خاله رجلا كاملا»، وصور غير هاتين كثيرة يمر بها من يقرأ ما كتب قاسم؛ صور حية ناطقة بما تحوي منبئة باهتزاز روح واضعها وتأثره.
وكان من أثر هذه الحال العصبية الخاصة عنده أن كان على الرغم من دقة ملاحظته، ومتانة تفكيره رجل عواطف يحس بالحياة أولا ويحللها ثانيا. لم تكن الحياة وما فيها من مظاهر وموجودات موضوعا خارجا عنه؛ فهو يحلله وينظر فيه بالهدأة التي يشرح بها الطبيب جثة أمامه يريد أن يعرف ما تحوي، ولكنها كانت روضة يريد أن يسعد بما فيها، ويود لو يشاركه في هذه السعادة أمثاله؛ لذلك تراه دائم التغني بمعاني الحب وآثار الجمال، داعيا الناس بشوق وشدة يريد منهم أن يسيروا معه، ويشاركوه في المتاع بذلك الجمال، وأن يسعدوا أنفسهم بالحب ليكون له بسعادتهم سعادة مضاعفة؛ ولذلك تراه شديد المقت لكل ما يحول دون هذا المتاع من ظلم أو جهل أو فساد. وهو يمقته بنفس تلك الهزة العصبية التي توجهه في جميع أفكاره وإحساساته، هو لا يريد لبني آدم ممن حوله أن يعيشوا عيش النبات يشبون ويذبلون ويفنون من غير أن يكون لهم في ذلك من حظ، ولكنه يريد منهم ولهم عيشا إنسانيا ممتلئا، عيشا تهزه العواطف وتملأه الأعمال، عيشا يسمح لهم بورود مناهل السعادة، ويجعل لمجموعهم وللأفراد الممتازين منهم محلا للخلود الشريف.
وظاهر من ذلك أن قاسم لم يكن من مذهب الساخرين من الحياة، وأنه كان يرى لها قيمة كبرى ويظنها مجالا للسعادة والنعيم؛ هو لم يكن يقول لنفسه: ما دام الموت هو الغاية العظمى والنتيجة الأخيرة لهذا الوجود المملوء بالمتاعب والآلام، فخير الطرق إليه أسرعها وأقلها متاعب وآلاما. ولكنه كان ينظر إلى الموت بعين الخائف الوجل، ويخيل إلي أنه كان يتمنى لو يصدق الظن ويحشر مع أهل الجنة وينجو بذلك من الفناء المخوف الأسود الذي يقول بعضهم إنه ينتظرنا ساعة الموت. ولقد عبر هو نفسه عن هذا الإحساس بكلمة بالغة في الدقة والإبداع، قال: «أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته فيفسد عليها لذتها، وينغص عليه شهوتها.» تلك كلمة تعبر عن أثر الخوف من موت يقطع كل أمل في البقاء، تعبر عن إحساس نفس تحب الحياة وترجو البقاء فيها، وترى أن فيما يحيطنا من أنواع الجمال وفيما يختلج صدورنا من مختلف العواطف، وفي ذلك العالم المملوء بما يبهر العين ويأخذ بالقلب ويستدعي الملاحظة، ويشحذ الفكر وينبه الإحساس، وبالجملة ما يبعث إلى النفس السعادة وإلى الذهن النشاط - ترى في ذلك ما يجعل الحياة حقيقة لذيذة تستحق أن يتمسك بها وأن يسعى لها.
صفحة غير معروفة