هذه بعض خواطر في النقد وردت على الذهن في تلك الفترة من الليل دوناها كما وردت ولم نرد أن نضيف إليها شيئا، وهي لا تزيد على أنها خواطر. ولا نطلب إلى قارئها أن يجعل لها أكثر من هذه القيمة.
أناتول فرانس (1)
الاحتفال ببلوغه ثمانين عاما (في 16 أبريل سنة 1924)
احتفلت فرنسا أول من أمس بأناتول فرانس شيخ مشايخ كتابها في هذا العصر لبلوغه الثمانين عاما. وقد شارك فرنسا في احتفالها برجلها الكبير كل كتاب العالم المتمدين. فليس أناتول فرانس كاتب فرنسا وحدها، وهو ليس كاتب هذا الجيل وحده، إنما هو من كتاب العالم الذين تظل كتبهم للعالم في كل الأجيال وفي كل الأمم. هو هومير، وهو دانت، وهو شكسبير، وهو جيتي، وهو أناتول فرانس. هو الفكرة الإنسانية المجتمعة في نفس واحدة؛ لذلك كان الاحتفال به احتفالا بالفكرة. وإذا صح أن الفكرة هي الحياة في أسمى معانيها، فالاحتفال بأناتول فرانس احتفال بأسمى معاني الحياة.
ومن حق أناتول فرانس على المصريين أن يذكروه يوم الاحتفال ببلوغه الثمانين، فهو كاتب من كبار كتاب العالم. وللكاتب من المكانة في النفوس ما ليس لغيره؛ لأن الكاتب كغيره من رجال الفن - بل أكثر من غيره من رجال الفن - هو أداة انتقال الفكرة بين الناس جميعا؛ وهل كان لغير آثار الفن ومظاهر الفكر خلود على الحياة؟ إن العالم لا يزال يتناقل شعر الأقدمين وحديثهم وما كتبوا معجبا به مقدسا إياه، والعالم لا يزال يجد في آثار الفن مما خلف المصريون القدماء والرومان واليونان متاعا للقلوب والعيون. فالعالم لا يذكر سوى آثار الفن ومظاهر الفكر والفن على صفحات الحياة.
ومن حق أناتول فرانس على المصريين أن يذكروه يوم الاحتفال ببلوغه الثمانين. فقد عرف هذا الكاتب الحكيم ما أصاب مصر من ظلم، وما تتطلع إليه من حرية ومجد يوم كان الوفد المصري في باريس سنة 1919. فلما كتب مارجريت كتابه «صوت مصر» وضع أناتول فرانس له مقدمة شارك بها هذا الشعب المجيد الطامح إلى الحرية، وإلى المجد في آماله وفي طموحه.
وكنا نود أن نذكر أناتول فرانس وأن نشارك العالم في الاحتفال به بشرح فكرته وكتبه، لكن فكرة أناتول فرانس فكرة واسعة المدى، وكتبه من تلك الكتب الدقيقة التي تحتاج منك إلى عناية كبرى. لا يسعك أن تترك صفحة من صحفها من غير أن تلتفت إليها، وأن تشرك القارئ معك فيها. كل صفحة، بل كل سطر، كالماسة الدقيقة قد يفوتك جمالها لأول نظرة تلقي بها عليها، فإذا أنت قلبتها وأنعمت النظر فيها ثم عدت إليها لم تطق بعد ذلك تركها. ومثل هذه الصحف، ومثل تلك الكتب وما تحويه من فكرة وفن ليس مما يهون نقله في كلمة تكتب في صحيفة سيارة.
لكنا مع ذلك نود أن نشرك القارئ معنا في كل مجمل من بعض نواحي فكرته، علنا نكون قد أدينا للكاتب الكبير حقه من الذكر، ولشريك المصريين في آمالهم ومطامحهم بعض ما يجب له من الشكر. •••
أناتول فرانس كاتب، لكنه كاتب محيط بكل ما في الحياة، محب لكل ما في الحياة، ساخر من كل ما في الحياة. هو ليس بالرجل الذي يقف عند أحد مظاهر الحياة ليولع به حبا وينقطع لتقديسه والتسبيح بحمده. وإنما يقف أمام هذه المظاهر جميعا. سواء ما كان منها في الماضي وما هو واقع أمام النظر، وهو يرى في كل منها موضعا لمسرة النفس والعقل، فيبحث عن هذه المواضع يبتغي لنفسه المسرة واللذة، ويطول به البحث فلا يلبث أن يرى إلى جانب المواضع السامية مظاهر الضعف الإنساني فيبتسم، وقد يضحك. وهل الحياة إلا الاضطراب بين القوة والضعف، والرفعة والضعة، والسمو والانحطاط؟ وجوانب الضعف في الحياة هي التي تحبب الحياة إلى أكثر الناس، بل هي حياة أكثر الناس. وهي، على أنها جوانب ضعف في نظر العقل وحده، جوانب القوة في الحياة. أليست الشهوة في الإنسان ضعفا؟ شهوة الحكم وشهوة المال وشهوة المجد وبعد الصوت. لكن هذه هي التي تدفع الإنسان لكل النقائص، هي التي تبعث فيه القوة على الكفاح والسعي والنجاح في الحياة. أفتضحك أنت من سلطان الشهوة الذي يدفع في النفس الحياة، أم تضحك من حكمة العقل الذي يقف عاجزا أمام سلطان الشهوة مكتفيا بالسخر منها ...؟
يقف أناتول فرانس أمام مظاهر الحياة جميعا، ماضيها وحاضرها. وهل سبيل إلى الوقوف أمام مظاهر الماضي غير الكتب وسائر آثار الماضي؛ لذلك يحب أناتول فرانس الكتب؛ ولذلك يفرد لها من داره خير مكان؛ ولذلك يعنى بها عنايتك بابنك العزيز عليك، لا يضن عليها بمشقة. هو قد يعرف أن كتابا نفيسا في بلد سحيق، فلا يزال يسعى ليحصل عليه، ولو كلفه السعي الأسفار وأكثر من الأسفار، ويعدل حبه للكتب حبه لسائر الآثار، فالرسوم والنقوش والصور على أنواعها عزيزة عنده. وهذا الغرام يدفع به إلى الولع بالمجموعات العجيبة النادرة. وقد يدهشك ما تكلف هذه المجموعات من مشقة ونفقة. سافر «سلفستر بونار» بطل رواية أناتول فرانس المسماة بهذا الاسم إلى إيطاليا باحثا عن علبة من الكبريت عليها صورة قديمة تكمل مجموعة من مجاميعه، وعلب الكبريت وما عليها من نقوش ليست أعجب ولا أندر المجاميع.
صفحة غير معروفة