ولقد أخذت أفكر في كلامه طويلا، ثم عجبت كيف أن هذه الاعتبارات قد غابت عن الذين أسسوا الجامعة ووضعوا قواعدها، وما افترقنا إلا وأنا أشد اقتناعا بفكرته مما كنت قبل أن أحادثه.
تكوين الشعوب في الشرق والغرب
يعتمد الشرقيون دائما على حكوماتهم في كل الأعمال العامة، وفي حدسي أن أول واجب على حكومات الشرق أن تضع هذه الحقيقة نصب أعينها.
ولدينا دليل ثابت على أن هذه الحقيقة كانت طوال الأعصر ذات أثر بالغ في حياة الأمم الشرقية؛ فلم تنه أمة من أمم الشرق إلا تحت ظلال حكومة تعمل على نشر العدل وإقرار الحقوق من نصابها. وهذه الحقيقة إن أمكن تطبيقها على كل الأمم في الشرق والغرب، إلا أن هنالك فارقا لا نفطن إليه دائما؛ وهذا الفارق هو أن الغربيين قد استطاعوا أن يحوروا من نظام حكوماتهم بمحض إرادتهم، فكانت الشعوب هي التي تكون الحكومات، أما في الشرق فإن الحكومات هي التي تكون الشعوب.
بدأ مستر بوزويل، الكاتب المعروف، كتابه في ترجمة «صموئيل جونسون» معتذرا عن تأليف الكتاب، قائلا إن كتابة ترجمة الرجل الذي بز كل أدباء الدنيا في الترجمة عن حياة العظماء؛ مهمة شاقة، والحقيقة مهمة الكاتب كانت شاقة جدا.
وكما بز جونسون كل كتب الترجمة في الدنيا، كذلك بز الشعب الإنجليزي كل أمم الأرض في القدرة على الترجمة عن حياة عظمائه. وعندي أن هذا سر عظمة هذا الشعب ؛ فإن الرجل الإنجليزي في مستطاعه أن يقف على دقائق حياة عظمائه من طريق الترجمة عن حياتهم التي ينقطع لها في كل عصر نخبة من الأدباء يشار إليهم بالبنان، بل في استطاعة كل إنجليزي أن يكون من عظماء رجاله حلقات متتابعة تزوده بأرقى المثل، وتعظه بأنكى المثلات، وتضع أمام عينه تاريخ أمته العظيمة، في نسيج تتعارض في خيوطه الشخصيات العظيمة على مدى العصور.
ولئن كان للشعب الإنجليزي من أدب يضارع آداب أرقى الأمم؛ فإنه يبز كل الأمم، ويمتاز عليها بعنايته في الترجمة عن حياة عظمائه، ولقد يخيل إلي أن هذه صناعة اختص بها الإنجليز، ولعلها مستمدة من روحهم الوطنية ومن أخلاقهم الوطنية، التي توارثوها جيلا بعد جيل، حتى انحدرت إلى عصرنا هذا، فكان من نتائجها تلك الإمبراطورية التي يبغضها العالم، ولكنه لا يستطيع أن يستغني عنها.
عمر الخيام
بدأنا ندرس عمر الخيام في العصور، وبدأنا نضعه في ميزان النقد والتحليل، ولا أدري كيف يمكن أن نخلص من درس عمر الخيام بفكرة يمكن أن يكون فيها بعض الثبات؛ إذ لم نعمد إلى درس أمثاله من الشعراء الذين غلبت الحكمة في أشعارهم، وأخصهم أبو العلاء المعري. وكذلك سوف نكب على دراسة عصره الذي عاش فيه، ولكن الحقيقة أن كل عصور المدنية العربية متشابهة جد التشابه، ففيها تجري روح واحدة، فإذا اختلفت في بعض الأحيان مظاهرها، فإنك تجد أنه اختلاف يلابس الكم لا الكيف.
هذه بعض اعتبارات تواجهنا في درس عمر الخيام، على أني أعتقد قبل كل شيء، أن الاعتماد على درس هذا الرجل العظيم يجب أن يوجه أولا إلى درس نفسيته؛ وهذه الدراسة لها فوائدها كما أن لها متاعبها ومصاعبها، غير أنها على أية حال الأساس الذي لا يمكن أن نبلغ إلى درس عمر الخيام بغيره، فإذا استطعنا أن نخلص من درس عمر الخيام بتحليل نفسيته أولا بعد أن نمهد لذلك بدرس في حقيقة رباعياته لأنها العمدة في هذا الدرس؛ استطعنا أن نصل إلى شيء من حقيقة هذه الشخصية الغامضة.
صفحة غير معروفة