على أنه مهما تكن هذه النتائج خطيرة أو يسيرة، فإنا لن نستغني عن دراسة الحياة الفنية القولية في مصر خلال هذا العصر الإسلامي المتطاول، لنخرج من هذا الدرس بصحة النتائج التي يريدها أصحاب هذا القول، ونسجل أن مصر لم تعرف فنا مصريا عربيا يمكن أن تكون قد شعرت به، أو تطلعت له، أو حاولته فما وجدته، وإنما كانت تردد في ذلك - إن رددت - آثارا أخرى صلحت لغيرها كما صلحت لها على السواء، ودفعت حاجة غيرها الفنية كما دفعت حاجتها تماما. وإذا كانت مصر هذه بين الأقاليم الأخرى من أقاليم الإمبراطورية الإسلامية أو العربية، هي الإقليم الذي لم ينشئ، ولم يتفنن، ولم يخلف ثروة من الفن القولي، وإنما كان عالة على الشام طورا، وعلى العراق تارة، وعلى غيرهما أحيانا، وقد كفاه أولئك حاجته الفنية حتى لم ينهض لها ، ولم ينشط لعمل فيها، فتلك في ذاتها - إن صحت - ظاهرة تستحق الدرس، ويجل الوقوف عندها لتتبين هذه الجماعة أمرها وتعرف نفسها. وعلى هذا يدرس «اللاأدب المصري» بهذه القوة والرغبة التي يدرس بها «الأدب المصري» لنشخص تلك العلة، ونستقر على رأي بين صحيح في صلة هذه العربية بمصر، وتلقي مصر لهذه اللغة، وكيف كان الأمر بينهما خصبا وجدبا، وإثمارا وعقما، وتلك هي دراسة الأدب المصري التي ندعو إليها، بل التي تصبح - إذا صح هذا من كلام القائلين - أشد ضرورة لحياة مصر وسلامتها، وفهم كيانها، وتبين مزاجها. •••
وفي الذي سلف بيان لما سميناه «جورا على المنهج»، إذ يفرض المعترض أن للدارس رأيا خاصا بعينه، ودعوى مثبتة يتصدى لتأييدها، فينكرها عليه حين ينفي أمامه أن يكون هناك أدب مصري قد وجد. وهذا الغرض أو التقرير خاطئ منهجيا؛ لأن الدارس إنما يبتغي الحقيقة كما تكون، وكما ينتهي إليها، وكما تجيء، لا كما يريدها أو يتمناها، أو يتعصب لها.
وشيء آخر من الجور على المنهج في هذا الاعتراض، هو سبق الدراسة بالنتيجة، والتقدم بالنهاية على البداءة، فإن وجود أدب مصري أو عدم وجود ذلك الأدب، إنما يثبته درس متصد لذلك يجمع الآثار المصرية الأدبية، أو قل يعرف هذه الآثار المصرية ومواطنها، ويتصل بها، فيعرف أن فيها ما يكافئ هذا المشهور الشائع من الآداب، التي هيئ لها أن تسير وتروج، أو ليس فيها ما يكافئ هذا المشتهر. وذلك هو ما لم يقم به - ولا بشيء منه - أصحاب هذا الكلام. •••
ولقد كان يظن - والحال على ما وصفنا - أن نلقى هؤلاء القائلين بآثار لمصر والمصرية في هذه الآداب الرائجة، وأن نضرب لهم مثلا بأنها كانت نجعة الرائدين حينا، ومباءة الناشئين حينا، فشاركت بذلك في توجيه هذا الأدب المشتهر أو تكوينه، وكان لها نصيبها - الذي تبين أو اختفى - فيمن وفد عليها من هؤلاء؛ ككثير وجميل وأبي نواس، أو اتصل بها؛ كأبي تمام والمتنبي ومن إليهما، أو أن نشير إلى مدارس في الأدب العربي باصطلاحهم، كانت مصر منضجتها، وصاحبة الأثر الواضح فيها، كالمدرسة الرمزية ومثالها البارز في ابن الفارض، أو نلتفت إلى أثر مصر والمصرية في الأدب بمعنى أوسع وأعم، فنشير إلى مدارس مصرية، وأعمال مصرية في العلوم الأدبية ومؤلفاتها، وما إلى هذا.
كان يظن أن نعنى بشيء من ذلك ونتجه له، ولكن هذا هو ما عددناه جورا آخر على المنهج، ما نستطيع أن نلقى به جور الذين ننقدهم؛ لأننا نكره أن نشير إلى شيء من ذلك، عن نظير من الرأي، أو ظاهر من الأمر، لم يهد إليه درس مستقل، ولا بحث مستقص، إذ لم توجه بعد عناية لدرس الأدب المصري، ولا منح ما هو خليق به من الرعاية. فالسبق إلى بعض النتائج قبل وجود ذلك كله جور منهجي، ما في ذلك شك.
وشيء آخر نفسي نعده جورا آخر، هو أن نكون بحيث نناضل عن فخار، ونذود عن عصبية لإقليم، أو ندعي فضلا لوطن، فذلك مما لا ينبغي أن يكون له في حساب العلم، ودستور البحث، أثر ولا شبه أثر، مهما تكن الأمنية المفاخرة قوية، والرغبة الوطنية متملكة، ففي ميدان المفاخر المصرية الأخرى غير الآداب متسع، قد أيده الدرس، وأثبته البحث، فيتهيأ به الشرف الفاخر، دون جور على حقيقة.
وعندي أنه لا ينتقص مصر في شيء ما، أن تكون قد قعدت عن أن تحدث فنا أدبيا عربيا في عصرها الإسلامي؛ لأنها غنية بفنون أخرى، وفنون في غير هذا العصر. ولكن ذاك كله ينبغي أن يؤخر أخيرا إلى ما بعد الفراغ من الدرس الكامل، والانتهاء إلى شيء ننفيه أو نثبته، عن علم لا عن هوى، ولا عن نفور من جديد لم يؤلف، هو تسمية «أدب مصري»، والتفرغ الجاد لدرسه، وفاء بواجب علمي أول شيء، ثم اجتماعي قومي بعد ذلك.
ويتصل بهذا الذي نحن فيه من بحث فكرة الإقليمية، إيضاح تتفاوت فيه كلمة القائلين بها، حين يبينون مرادهم بالمصرية عندما ينشطون لشيء من درسها، فتسمع مثلا منهم من يقول: «يجب أن نلفت النظر إلى أن مصر التي نعنيها ليست هي مصر بحدودها الجغرافية المعروفة، بل مصر بحدودها الفنية التي تجاوزت البحر الأحمر إلى شواطئ الفرات، أو مصر التي كانت تضم فيما تضم إليها البلاد العربية عامة، والقطر السوري منها بنوع خاص.» «على أن الدين الإسلامي نفسه لم يعرف الوطنية، ولا العصبية، ولا عرف التفرقة بين الأقطار التي تضمها الراية الإسلامية، وإذا كانت الحكومات المصرية في العصور الوسطى قائمة على هذا الدين، فمن العبث أن نحاول فهم التاريخ الوسيط في مصر وغيرها على ضوء الوطنية ونحوها من الأفكار. ومن التعسف أن نتتبع الدم المصري وحده، أو الشامي وحده، في كل قطر من هذه الأقطار. ومن الخير لنا وللتاريخ أن ننظر إلى المصريين وإلى غيرهم من الشعوب الإسلامية، نظرة تتفق وروح العصر التي يراد أن يؤرخ لها، وليكن عذرنا في ذلك أن المصريين كغيرهم من سائر المسلمين، لم ينشأ في نفوسهم ميل إلى التعصب الوطني المعروف، أو ليكن عذرنا في ذلك أننا نستعرض تراجم الرجال في تلك العصور، فنرى فلانا المصري، المقدسي اللخمي! ونرى فلانا المغربي الإسكندري الشافعي، وقل أن نعثر في هذه التراجم على رجل يقال عنه فقط، إنه المصري، أو على آخر يوصف فقط بأنه الشامي أو المقدسي، وهكذا.» •••
وفي الحق إنه بعد الإغضاء عن الهنات اليسيرة في هذا البيان للمصرية، يظل هذا البيان يحمل من آثار الضعف ما يؤذي فكرة الإقليمية، بل يفسدها؛ ذلك أنه إذا كنا لا نعني بالمصرية مصر في حدودها الجغرافية المعروفة، وإذا كان من التعسف أن نتتبع الدم المصري وحده، فماذا بقي من هذه الإقليمية بعد ذهاب الجنس وفقدان أثر البيئة؟! وأي شيء هذا الذي نطمئن له، ونطمئن الناس معنا، من أن الإقليمية إنما هي قضية العلم في تاريخ الأدب؟! •••
لقد أصاب هذا البيان ضعف مهون، جاءه من محاولة تقدير واقع تاريخي هو امتداد الإمبراطورية المصرية في عصور مجدها، إلى ما وراء حدودها الإقليمية، وامتداد نفوذها السياسي والاجتماعي، وما يتبعه من النفوذ العلمي أو الفني، إلى ما وراء هذه الحدود شرقا وغربا. وهو واقع تاريخي يستحق التقدير ، ولكن ما هكذا يكون تقديره.
صفحة غير معروفة