رقيق كما غنت حمامة أيكة
وجزل كما شق الهواء عقاب
على كونهم بهذا الإقليم ومصاحبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية، ليس وراءهم وأمامهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط.» فهلا تراه يشير بذلك إلى جمل من خاص حال هؤلاء القوم في منزلهم وطبيعته، وبعدهم من الوطن العربي وأثره؟ وتلك منه فطنة على شيء مما يقال اليوم عن أثر البيئات، وإن كنا لا نقف عند هذا لنستوفي منه شيئا؛ فلذلك مكانه الخاص، وإنما حسبنا من ذلك إنكار أن يكون ابن بسام هذا قد قال بوحدة تلف المشرق القصي والمغرب الأندلسي!
وإذا ما أشرنا إلى الدخل في الاحتجاج بالنصوص المقتطعة وما أشبه ذلك الانحراف أو التحريف، فإنا لنحس الحاجة الشديدة إلى التعليق على مظاهر للدخل في التفكير، ربما لا يقوم عليها إنكارهم للإقليمية، لكنها قضايا عن سير الحياة الاجتماعية، يخشى خطرها لو تركت هكذا دون تعليق، فلمثلها يعرض مؤرخ الأدب فتزل قدمه لو ظن هذه هي الجادة. فلنشر إلى ما فيها، ولو على ضرب من الإجمال.
فمن ذلك ما رأينا من إشارة في هذا الحجاج إلى العناصر المختلفة التي اشتركت في ماضي هذا الأفق الأندلسي، وإنكار أن يكون لهذه العناصر أثر في الحياة العربية التي خلفت عليه ، واستظهار أن تأخر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على أن تندثر هذه المدنيات، دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية الإسلامية! وهم يعنون بهذه العناصر المختلفة - فيما يصرحون به - العناصر الفينيقية، بما كان للفينيقيين من مستعمرات هناك، وما جرى من صراع بين رومية وقرطاجنة. ثم العناصر الرومانية بعد ذلك، حين تم الأمر في إسبانيا لدولة الرومان، وصارت البلاد مستعمرة رومانية. ثم الموجات الجرمانية الشمالية، ولا سيما القوط الذين خضعت لهم البلاد، إلى أن فتحها العرب. وقد كان لكل عنصر من هذه العناصر الثلاثة أثره في حضارة البلاد، لكن الأثر الفينيقي - في رأيهم هم - يوقف عند الناحية الاقتصادية، والأثر الروماني يوقف عند الناحية الدينية، كنشر المسيحية، وجعل اللاتينية لغة الكنيسة الرسمية. ثم يعدون تأخر النهضة العلمية والأدبية في الأندلس حتى القرن الرابع الهجري، هو الذي ساعد على أن تندثر هذه المدنيات، دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية لمسلمي إسبانيا. ويقولون:
ما نصل إلى القرن الخامس حتى نرى أهل إسبانيا هجروا اللاتينية واتخذوا اللغة العربية مكانها، وترجموا إليها التوراة وغيرها من كتب الكنيسة. ويعلق الناقل على هذا القول بما يرد نسبته إلى المؤرخ دوزي.
والحديث عن هذه المدنيات القديمة في بلاد آل أمرها إلى الإسلام، والقول بعدم وصول آثارها إلى الحياة العقلية الإسلامية بعد ذلك، حديث يتصل بما كان من مثل هذا من حضارة راسخة في مصر، ووصولها إلى المسلمين حينما حلوها. وهذا هو ما يدفعنا إلى الوقوف عنده، فوق ما لهذا الحكم العام من قيمة في التأريخ الأدبي.
ومظهر الدخل في هذا القول، ما نراه من توجيه آثار المدنيات، وقصر كل مدنية على ناحية بعينها دون أخرى، فهذه دينية وتلك اقتصادية وهكذا، على مثال ما سمعنا من قولهم.
ثم الاطمئنان إلى القول باندثار هذه المدنيات دون أن يبدو لها شأن في الحياة العقلية! فإن هذا التوجيه لآثار المدنية لا يكون إلا عن دراسة طويلة عميقة مستقصية لتاريخ هذه المدنيات وأثرها في حياة إسبانيا، وذلك ما أحسب أن الكاتب العربي لم يتصل بمصدر واحد من مصادره، وهو طبعا لم يقم بهذه الدراسة بنفسه، ولو كان قد اتصل بمصادر هذا من مباحث عظماء المؤرخين المتخصصين؛ لبقي عليه بعد ذلك أن يتصل هو بالحياة العقلية الأندلسية في العصر الإسلامي، اتصالا يهيئ له أن ينفي أن شيئا من هذه الحضارات القديمة لم يصل أثره إلى تلك الحياة. ونحن - ولو أنها حقيقة مرة - لم نصل إلى قدر مادي من آثار هذه الحياة العقلية الأندلسية في الإسلام، تناله أيدينا وحدها دون عقولنا. وأكثر هذا في يد الغرب لم نعرفه ولم نره، أو في أطواء الغيب ضائع مغمور. وما أحسبنا نجرؤ على حد أن نقول إن الحياة العقلية الإسلامية في الأندلس أيضا قد درست منا نحن درسا يهيئ لنا القول بعدم بدو آثار الحضارات القديمة في إسبانيا في هذه الحياة!
وبعد هذا كله، أليس من الدخل المفسد هذا التوجيه الفاصل لآثار الحضارات؟ فمتى كانت الحياة الاقتصادية تنفصل عن الحياة العقلية، كما تنفصل عنها الحياة الدينية، انفصالا يبقي لهذه أثرا في تلك، ولا يجعل واحدة منهما تلاقي صاحبتها، أو تتفاعل وإياها فتؤثر فيها وتتأثر بها؟! فمتى كان هذا في سير الوجود ومشهود الدنيا؟ وأي شيء هي البيئة التي يبدئ الناس فيها ويعيدون، ويحسبون منها المعنوي الاجتماعي، ينعمون النظر في آثاره على الكائنات الإنسانية وغير الإنسانية؟! أليست الحياة الاقتصادية والدينية عناصر وجوانب لهذه البيئة المعنوية؟! فكيف يذهل جامعي عن هذه المقررات الأولى التي كان القدماء في مستواهم العقلي يدركونها في إجمال وعموم، والمحدثون يدققون فيها ويفصلون؟! وكيف لا تتصل الحياة العقلية بهذه الجوانب من الحياة العملية، أو تلك العناصر من البيئة المعنوية؟! هذا عجب من النسيان، أو ما هو أشد منه.
صفحة غير معروفة