32
وكذا ضاعت كنوز الفاطميين العلمية بيد التعصب الممقوت.
كان في هذه الخزائن كتب الدعوة، وما ألفه الأئمة، وكانت هذه الكتب مما يحافظ عليه الفاطميون أشد المحافظة حتى لا يصيبه الفساد، ويحدثنا منصور الجوذري الكاتب أن المنصور بالله أرسل إلى جوذر الصقلبي رسالة نسختها: «بعثت إليك كتبي وكتب الأئمة آبائي الطاهرين. وقد ميزتها فأقررها عندك مصونة من كل شر، فقد وصل الماء إلى بعضها فغير فيه، وما من الذخائر شيء هو أنفس عندي منها، فأمر محمدا كاتبك ينسخ لك منها ثلاثة كتب، ففيها من العلوم والسير ما يسرك الله به.»
33
فهذا يدل على شدة العناية التي كان يوجهها الفاطميون إلى كتب الأئمة، وهي كتب الدعوة ومحافظتهم عليها؛ فلا شك أن مثل هذه الكتب العزيزة لديهم كانت تحفظ داخل القصر فلا يقربها إلا الأئمة والدعاة فقط، أما المكتبات التي عبر عنها المسبحي «بالبرانية»، فأرجح أنها كانت كالمكتبات العامة في عصرنا هذا، ولا سيما في تلك الأيام التي كان يجتمع فيها الناس بالقصر لسماع مجالس الحكمة التأويلية.
فهذه المكتبات التي كانت في القصر لعبت دورا هاما في الدعوة ونشرها، فحرص الفاطميين على اقتناء الكتب على اختلاف فنون العلم والآداب، وشغفهم بالمحافظة عليها سهل للدعاة الاطلاع وإدمان النظر فيها، والمجادلة فيها بينهم، والمناظرة في هذه العلوم حتى يتخذوا منها وسيلة لغايتهم، وسلاحا من أسلحة دعوتهم. حقا لم يذكر لنا القدماء أن الفاطميين استخدموا هذه المكتبات التي كانت بالقصر في خدمة الدعوة، فلم يعقد فيها الدعاة مجالس الحكمة، ولكن هذه الكتب الكثيرة لم توجد في القصر عبثا، ولم يحافظ عليها الفاطميون ليباهوا بها غيرهم ومنافسيهم فحسب، بل كانت أداة من أدوات تثقيف الدعاة وتعليمهم حتى تكون لديهم ذخيرة علمية للقيام بما تفرضه عليه طبيعة عملهم، ولا سيما هذه الكتب التي كانت في داخل القصر والتي لا يقربها إلا الخاصة، وهي الكتب التي قلنا إنها كتب الأئمة، أي كتب الدعوة، فكيف يتأتى للداعي أن يقوم بما فرض عليه من الدعوة إلا بمعرفة هذه الكتب ودراسة ما فيها دراسة كاملة شاملة، ولا سيما أن الداعي كان عرضة دائما للمجادلات والمناظرات مع علماء المذاهب الأخرى المخالفين لمذهبه، وقد ذكرنا شيئا من صفات الداعي العلمية، وما يجب أن يكون عليه من سعة الاطلاع والإلمام بمذهبه؛ وإذن فلنا أن نقول: إن هذه المكتبات التي كانت في القصر استخدمت في الدعوة من طريق غير مباشر، وهكذا استخدم القصر في العصر الفاطمي في نشر الدعوة الفاطمية بمحوله ومكتباته، وفي المحول كان يجتمع الناس لسماع المحاضرات - مجالس الحكمة التأويلية - وكان الجمهور يقسم إلى أقسام؛ فكان للأولياء مجلس، وللخاصة وشيوخ الدولة وخدم القصر مجلس، ولعوام الناس مجلس، وللطارئين مجلس، وللنساء مجلس،
34
وهكذا، وسنتحدث عن ذلك في فصل مجالس الحكمة التأويلية.
دار العلم
ومن مآثر الفاطميين تلك الدار التي أنشأها الحاكم بأمر الله سنة 395ه، وسماها بدار العلم، وجعلها جزءا من قصره، ولعلها هي الخزائن التي أشار إليها المسبحي باسم الخزائن البرانية، وقد حمل إلى هذه الدار الكتب من خزائن القصر من سائر العلوم والآداب ما لم ير مثله مجتمعا لأحد قط من الملوك، وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها؛ فجلس فيها القراء والمنجمون وأصحاب النحو واللغة والأطباء، فكان ذلك من المحاسن المأثورة التي لم يسمع بمثلها من إجراء الرزق السني لمن رسم له بالجلوس فيها والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين ثقافاتهم وفنونهم العلمية؛ فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق،
صفحة غير معروفة