وفي الحق لم يدع أحمد فارس شيئا من أهل مصر وعاداتهم إلا وصفه وصفا دقيقا بذلك الأسلوب المرح، وهذا التهكم المحبوب، وله نظرات نافذات حين يتكلم على الأجانب, وكيف صار لهم الحول والسلطان، مع أنهم كانوا في بلادهم أفاقين مفلسين، وحين يعبر عن فلسفة الحشاشين، وكيف يعملون جادين مخلصين على تغييب العقل، وهو الذي يهدي الإنسان سواء السبيل.
وأنت ترى في أسلوبه السجع، والترسل، والسهولة، والتوعر، والكلمات العامية، والكلمات الغريبة التي لا تستعمل إلا في المعاجم، وكأنه قصد إلى إحيائها، وكما كان يفعل أصحاب المقامات، لولا طرافة الموضوع، وصدق الوصف، ومما يلفت الأنظار في أدب أحمد فارس أنه كان قوي الملاحظة، معنيا بأحوال الشعوب وطرق حياتهم، والموازنة بين الشعوب التي زارها, والشعوب العربية، وله فصول ممتعة في كتابه "الساق على الساق" عن الإنجليز وبلادهم، والفرنسيين وأحوالهم، ومما قاله في الموازنة بين الأدب الغربي والعربي قوله:
"فإنهم أول ما يبتدئون المدح يوجهونه إلى المخاطب، ويجعلونه ضربا من التاريخ، فيذكرون فيه مساعي الممدوح، ومقاصده, وفضله على من تقدمه من الملوك, بتعديد أسمائهم, ولما ترجم "مسيو دوكان" قصيدتي التي مدحت بها المرحوم أحمد باشا, والي تونس, وطبعها مع الترجمة، كان بعضهم يسألني "هل اسم الباشا "سعاد"؟ وذلك لقولي: "زارت سعاد وثوب الليل مسدول" فكنت أقول: لا، بل هو اسم امرأة, فيقول السائل: "وما مدخل المرأة بينك وبين الباشا؟ " وهو في الحقيقة أسلوب غريب للعرب، قال العلامة الدسوقي: "اعلم أنه قد جرت عادة الشعراء أنهم إذا أرادوا مدح إنسان أن يذكروا قبله الغزل؛ لأجل تهييج القريحة وتحريك النفس للشعر، والمبالغة في الوصف، وترويح النفس ورياضتها" قلت: كما أن الإفرنج ينكرون علينا هذه العادة، كذلك ينكرون المبالغة في وصف الممدوح, وأما تشبيهه بالبحر والسحاب والأسد، والطود، والبدر، والسيف، فذلك عندهم من التشبيه المبتذل، ولا يعرضون له بالكرم، وبأن عطاياه تصل إلى البعيد، فضلا عن القريب، فهم إذا مدحوا ملوكهم، فإنما يمدحونهم للناس، لا لأن يصل مدحهم إليهم".
صفحة ٨٣