278

في الأدب الحديث

تصانيف

وتولى محمد عبده منصب الإفتاء في يولية 1899، وأضفى عليه وجاهة دينية وجلالا, وكان في منصبه هذا جريئا، يصدر الفتاوى التي يرى فيها الجامدون زندقة وإلحادا، وهو يراها اجتهادا وتجديدا وتمشيا مع روح العصر بما لا يخالف حقيق الدين وجوهره1، ولم تكن العلاقة بينه وبين الخديو عباس طيبة؛ لأن عباسا يراه مسالما للإنجليز مستعينا بهم, وفي ذلك جرح لوطنية الخديو والتجاء إلى خصومه، وكان الشيخ محمد عبده يعتقد في مهادنة الإنجليز والاستفادة منهم، ويرى في عباس رأيا آخر, وهو أنه جشع محب لجمع المال ولو من دماء رعاياه, وقد اصطدم به مرتين؛ أولاهما: حين أراد استبدال أراضي وقف فأبى عليه الشيخ ذلك, ورأى أن هذا الاستبدل ليس في مصلحة الوقف، وحمل مجلس الأوقاف الأعلى على رفض هذا الاستبدال إلا أذا أعطي للوقف عشرين ألفا من الجنيهات تعويضا لهم، وثانيهما: حينما أراد الخديو منح بعض رجال حاشيته "كسوة تشريفة" ولم يكن هذا المنح منسجما مع اللوائح، فأوعز الشيخ محمد عبده بعدم تنفيذ أمر الخديو وإعطائها للمستحق، ولما اجتمع العلماء لدى الخديو, وأخذ يؤنب شيخ الأزهر على ذلك, انبرى له الشيخ محمد عبده، وطلب منه إذا أراد التنفيذ أن يغير اللائحة, وينسخ القانون السابق، فاستشاط عباس غضبا ووقف # إيذانا للعلماء بالانصراف، وقد كان لهذا كله أثر في الحملات الشديدة, والمكايد التي دبرها عباس للشيخ وإيعازه للصحافة بالتشهير به, وانتهاز فرصة فتاويه الجريئة ورميه بالكفر والإلحاد، وكلما هم الخديو بعزله من منصب الإفتاء صرح كرومر بأنه لا يوافق على عزله, ومهما كانت الأحوال ما دام موجودا.

كل هذا ومحمد عبده ماض في مشروعاته الإصلاحية بالأزهر والمحاكم والأوقاف, وكان الحزب الوطني يناوئه ويحمل عليه بشدة لأنه كان يشايع الإنجليز ويتخذهم أعوانه، وكان الإمام يرى أن مصطفى كامل مخطئ في صلته بالخديو؛ لأن عباسا لم يكن مخلصا في وطنيته, ولا هم له إلا جمع المال وإيداعه بالمصارف الأجنبية خشية أن يعزله الإنجليز فجأة، وقد قال محمد عبده في وصف مقالات مصطفى كامل: "إنها مجموعة نوبات عصبية بعضها شديد وبعضها خفيف".

والحق أن التباين كان شديدا بين عقلية الإمام وعقلية الزعيم الشاب؛ من حيث طريقة التفكير واتخاذ الوسيلة، ولا نستطيع أن ندافع عن موقف الشيخ محمد عبده من الإنجليز واعتماده عليهم, إلا أن الخديو هو الملوم في ذلك؛ لأنه لم يمكن هذا المصلح الكبير من السير في إصلاحاته، ولأنه أراد أن يلتهم مال الوقف بدون مبرر؛ وفي مال الوقف قسم كبير جدا للأزهر، كلما حاول عباس أن يعبث وقف له محمد عبده بالمرصاد، وحب المال ضعف بشري عام، وكان في عباس أضعف شيء فيه، ولكن دفاعنا هذا لا يسوغ لجوء الشيخ إلى خصوم وطنه وخصوم دينه مهما كان الإصلاح المنشود وقيمته، وما كان له أن يستعين بهم حتى لو ظل الأزهر على ما هو عليه، وهل بعد هذه التضحية استطاع أن يصلح الأزهر؟ كلا! وقد اعترف بإخفاقه.

ولكن هل تقضي هذه الزلة السياسية على كل ما لمحمد عبده من مجد؟ اللهم لا، فقد شاركه في رأيه السياسي حينذاك كثير من زعماء الأمة؛ كسعد زغلول، وفتحي زغلول، وحسن عاصم، ومحمو عاصم، ومحمود سليمان، وسلطان وغيرهم، إلا أنه تعرض للهجمات أكثر منهم؛ لأن الخديو رأى فيه قوة واعتدادا بالنفس، وعقبة في سبيل مطامعه؛ فألب عليه العلماء الرجعيين, والصحافة المأجورة هزلية وجدية.

صفحة ٢٩٩