ليته حدث ناهيا كذلك عن هذه التسلية بأباهم الرجل، لكنت إذ ذاك أنقل إليك خبرا يدهش ويسر، فأقول: كنت ذات يوم في مجلس السيد الإدريسي، أو الإمام يحيى، أو الملك ابن سعود، فدخل أعرابي وسلم وجلس، وإذ رأى يد السيد مثلا تعبث بالأباهم الشريفة صاح قائلا: يا طويل العمر، هذا مخالف للسنة؛ فقد جاء في الحديث ... ويروي الحديث الذي أود لو كان. ولكن النبي - لسوء الحظ - لم يفطن إليه. وستستمر تلك العادة، تلك التسلية بأباهم الرجل، إلى أن يقتدي أصحاب الجلالة هناك بابن عمهم ملك العراق، فيلبسون الجوارب والأحذية.
قلت إن ملك العراق لا يلبس التاج، وهو في هذا مثل سائر ملوك العرب الأقدمين والحديثين، فقد كان فيصل يلبس السدارة حتى في الحفلات الرسمية، إلا أنها سوداء اللون مثل جوخ ثوبه الإنكليزي، وما رأيته مرة جالسا على عرش أو شبه عرش، وما رأيت عرشا في القصر أو شبه عرش، ولا فراش ملك مثل الذي يجلس عليه الإمام يحيى. قلت: القصر - والحقيقة أنه مثل العرش ومثل التاج - لا وجود له. إنما الملك حدثني عن المدينة الجديدة التي يريد بناءها، وأطلعني على التصميم، ستكون بغداد الجديدة، التي ستبنى على الضفة الغربية، مدورة مثل مدينة المنصور، وفي وسطها ساحة كبيرة، وفي الساحة محطة للطائرات بين الشرق والغرب، وحول الساحة أبنية الحكومة، وحلية العقد القصر الملكي، سيكون لملك العراق قصر إذن في المستقبل.
2
أما الآن فالبناية ذات الطبقة الواحدة، القائمة في بستان، على طريق الأعظمية، هي المقر الملكي. فيها يشتغل الملك، وفيها يستقبل الناس، تدخلها فإذا أنت في رواق صغير، إلى شماله مكتب لرئيس التشريفات، وهو يستقبل من الزائرين الحضر ذوي السدارات والبرانيط والعمائم، فيقدمهم للملك أو يعين لهم وقتا للمقابلة، وإلى جانب مكتبه غرفة الحرس الملكي الذي قلما يبدو للعيان، وإلى الجهة الأخرى من الرواق مكتب السكرتير الأول، تحاذيه غرفة الانتظار لرجال العشائر ومشايخ العرب، وأصحاب العباءة والعقال، وبين المكتبين باب كبير يفتحه حاجب، فإذا أنت في ردهة مربعة، هي مكتب الملك ومجلسه، ينير هذه الردهة شباكان في الحائط المقابل للباب، ولكن الأسترة تلطف النور، فلا يبهرك، ولا يحول بين ناظريك ووجه الملك، الواقف لاستقبالك.
أما فرش الردهة فالذوق فيه غالب على الفخامة، وجامع بين الشرق والغرب؛ السجاد عجمي، والديوان عربي، والمنضدة مع الكراسي المنجدة بالجلد أوروبية. وهناك خزانة للكتب، وعلى الحائط فوقها رسوم لبعض أمراء البيت الهاشمي. يجلس الملك على الديوان في الصدر، وإلى جانبه مائدة صغيرة على حرفها بضعة أزرار للأسلاك الكهربائية تصلها بدواوين البلاط.
عندما يدخل الزائر يقف الملك، فيخطو بضع خطوات، ويتقدم في بعض الأحايين إلى وسط الردهة مرحبا. كان الملك فيصل في استقباله وفي حديثه على جانب عظيم من الرقة والبشاشة، واللطف والوداعة، بل كان مثال النبل وكرم الأخلاق. يقول لك ذلك كل من زاره وكل من عرفه؛ غربيا كان أو شرقيا، وضيعا كان أو رفيعا، من البدو أو الحضر. وكان استقباله شرقيا للجميع، يأمر بالقهوة والسجاير، ويقدم في بعض الأحايين للزائر سيكارة من علبته الخاصة، فيشعر بأنه عند أحد أصدقائه، لا في حضرة مليك البلاد، ويخرج معجبا بهذه الروح العربية الديمقراطية الشريفة، فإن لم يكن شاهد شيئا من أبهة الملك، فقد قابل عربيا من أماجد العرب، هو حقا ملك القلوب.
في ذلك البستان بيت آخر ذو طبقة واحدة؛ هو منزل الملك في النهار، فيتناول فيه طعام المساء، ويقيم فيه المآدب الرسمية والاستقبالات العامة، ها هنا في البيتين كان الملك فيصل يشتغل ويقضي معظم يومه، وما كان في شغله ليرعى نظام الدوام المحدد للعمل اليومي، ثماني ساعات لا غير، فيشتغل اثنتي عشرة ساعة وما يزيد في بعض الأحايين.
أما أشغاله فما كانت تنحصر في جلوسه إلى منضدته وفي مجالسه ومحادثاته، وما كانت كلها تظهر حتى لرجال البلاط والحكومة، فمن أين لهم أن يروها في استقبال عام مثلا، أو في مأدبة رسمية؟ ألا إن هموم الدولة، ساكنة أو ناطقة، وشئون الملك - سافرة أو محجبة - لتتمشى هناك بين الضيوف، ولا يعرفها ويشعر بوطأتها غير الملك. وبكلمة أخرى إن الملك يشتغل حتى في ساعة لهوه، وإن شغل هذا الملك العربي ليختلط حتى بطعامه، فقلما كان فيصل يأكل وحده، وقد كان شغله مزدوجا في ضيافاته على اختلاف الضيوف؛ فإذا كانوا من مشايخ البدو، أو من الوطنيين، أو من الأوروبيين، من أصحاب الشكوى أو المشاريع الإصلاحية أو الامتيازات؛ فعليه أن يستمع إليهم، ويتبصر فيما يعرضون، فلا يفوته شيء مما قد يكون فيه خير الأمة.
قد تسأل بعد هذا: وأين المنزل الملكي الخاص؟ أين بيت فيصل بن الحسين بن علي؟ في شارع صغير في قلب المدينة، إلى جانب الميدان بيت ذو طبقتين، شبيه بالبيوت الأخرى الملتصقة بعضها ببعض؛ يسكن فيه الأستاذ إبراهيم دباس، معلم الملك فيصل اللغتين الإنكليزية والفرنسية، بل المعلم اللبناني في الأسرة الهاشمية المالكة، الذي قال فيه الملك حسين: «هذا معلم أولادنا وأحفادنا.»
وفي ذلك الشارع أيضا، على نحو مائتي ذراع من البيت المذكور، منزل الملك الخاص؛
صفحة غير معروفة