وكان الملك وقتئذ يستقبل المهنئين ، فبعث برئيس الأمناء ليقابل الوفد، ويجيب الخطيب بكلمة شكر واطمئنان تناسب المقام، فجاء الرئيس يقوم بهذا الواجب، ولكنه - وهو يسمع ويرى - ذهل عن نفسه الرسمية، فنفذت إليه من كلمات الخطيب شرارة أشعلت فيه الحمية والحماسة، فراح في جوابه يجاريه في مضمار السياسة الوطنية، فهتف له الجمهور أضعاف هتافهم لخطيب الوفد. وبينا هو يخطب تلك الخطبة التي «تناسب المقام»، وصل المندوب السامي السر برسي كوكس، وقد جاء يهنئ الملك، وكان من واجب رئيس الأمناء أن يستقبل العميد، فختم خطبته بكلمة من نار، فصاح إذ ذاك الناس قائلين: ليسقط الانتداب! ليسقط البريطانيون!
وهكذا، بعون رئيس الأمناء، تمت المظاهرة وكانت مفلحة، ولكنها ما أثرت ظاهرا بالسر برسي، الذي مشى إلى غرضه على عادته هادئ البال. وبعد أن أتم واجبه الرسمي في تهنئة الملك، وعاد إلى مقره، كتب إليه يعلمه بالحقيقة المؤلمة، فمهما قيل في اجتماع عام، وبشعب متهيج، لتخفيف الذنب، فلا يصح أن يقال إن المظاهرة هي غير رسمية، وقد حدثت في فناء القصر، وكان رئيس الأمناء أحد الخطباء، هذا هو الحادث الذي زاد يومئذ بآلام فيصل الروحية والجسدية، فكتب إلى العميد يفصح عن أسفه الشديد، ثم أقال رئيس الأمناء من وظيفته.
وما انتهى مع ذلك الحادث المشئوم؛ فقد كان المندوب السامي يفكر يومئذ بخطة سياسية فاصلة، ويتردد في تنفيذها، فجاء هذا الحادث يقره في رأيه، يستفزه، يشحذ منه العزيمة. وقد جاء على ذكر تلك الخطة وأسبابها في مقدمة كتبها لكتاب المس بل، وفي تقريره الرسمي للحكومة البريطانية، وفي الاثنين يقول إن الحالة كانت تنذر بثورة ثانية، وقد عدد من الأسباب استعفاء الوزارة، والاضطرابات في ولاية بغداد، والهياج المستمر في العشائر، ومرض الملك فيصل الذي حال دون التعاون، ثم قال: «لم يكن في البلاد من سلطة غير سلطة المندوب السامي التي وجب علي استخدامها حتما على الإطلاق.»
ولكنه وقد ذكر مرض الملك، لم يذكر أنه حاول أن يشرك جلالته في العمل، ليحفظ في الأقل صورته الشرعية، فأخفق وكان مدحورا. وقد حدث الحادث المؤلم بعد المظاهرة في فناء القصر، وقبل تنفيذ الخطة الحاسمة، فمثل السر برسي كوكس فيه دورا شائنا شبيها بدور البطل الشرير في الروايات. مثل الدور وسكت، وسكتت كذلك المس بل التي كانت عالمة به. يا للعجب كيف أن المس بل التي كانت تضمن رسائلها كل ما يحدث في بغداد في حومة السياسة وخارجها من صغير الأمور وكبيرها، نسيت هذا الحادث المؤلم أو تناسته، فما أشارت إليه؟!
وكان السر برسي والمس بل عالمين بحالة الملك الصحية، وعالمين كذلك بالجراحة وبموعدها في اليوم التالي، وهو والمس بل من ذوي الشعور الراقي إذا لم نقل كذلك الرقيق، فضلا عن ذلك أن الرجل الكريم لا يحرج امرأ ساعة محنته، أو يخلو الرضى، في مثل هذه الحال، من الكره والإنكار. فإذا سلم المكره بأمر ما أو رضي بعمل ما، أيعد ذلك لخصمه فوزا سياسيا؟ وهل هو شرعا من العدل بشيء؟ وهب أنه في الحالين فوز وعدل، فهل ننكر أو نتجاهل أنه خلقيا في الأقل مخجل شائن؟
قال المندوب السامي إنه لم يكن في البلاد يومئذ غير سلطة واحدة هي سلطته، فلم لم يستخدمها منفردا دون أن يزيد بألم ملك مريض، ودون أن يعرض نفسه للإهانة؟ فقد قدر، على ما يظهر، أن تشفع المظاهرة الوطنية بالتوبيخ الملكي. وكان التوبيخ، وكان أن عمل السر برسي بالكلمة العربية: الكريم من ستر إهانته. فما ذكر الحادث فيما كتب، لا في التقرير، ولا في كتاب المس بل.
وما الداعي لذكره الآن؟ ليس الأمر شخصيا ليغضى عنه؛ فهو يتعلق بالملك فيصل وبعدد من زعماء الأمة وصحفييها؛ إذن هو وطني عمومي. زد على ذلك أن فيه مأثرة من مآثر فيصل التي يجب أن يعرفها خصوصا العراقيون.
ويجب أن يعرفها الإنكليز؛ فالأمة صاحبة الانتداب تجهل غالبا ما يعمله باسمها كبار رجالها السياسيين، وعندي أن علمها بذلك كله وبالسيئ منه قبل الحسن، بما فيه تذل وبما فيه تعز، هو مفيد لها وللأمة المنتدبة عليها. وأين العدل يا ترى وأين الوطنية - إني ها هنا ناظر إلى المسألة من الناحية البريطانية - في سكوت المندوب السامي عن عمل له ليس فيه مأثرة أو محمدة؟!
قد أطلت الشرح، فهاكم الحادث؛ في صباح اليوم التالي لعيد الجلوس، عندما كان الملك فيصل محاطا بالأطباء والممرضات، وقد أعدوا المباضع والأدوات للجراحة؛ وصل المندوب السامي السر برسي كوكس، فسلم وأخرج من جيبه أمرا قدمه للملك ليوقعه، هو أمر باعتقال سبعة من الزعماء الوطنيين ونفيهم من العراق. قرأه الملك مكمودا وهز برأسه، فأفصح السر برسي عما يبرر العمل، فما أجاب الملك بكلمة، ولكن أحد الأطباء الإنكليز تقدم وخاطبه قائلا: «ليس هذا الوقت، يا حضرة المندوب، لمثل هذه المسائل.»
السر برسي: «المسألة ضرورية لحفظ الأمن، إن البلاد في خطر.»
صفحة غير معروفة