سيدة إنكليزية، تروي بلسان عربي لا لكنة فيه، لأمير عربي من بيت الرسول، صفحة مجيدة من تاريخ العرب القديم! إنه لأمر فريد في بابه، إنه لموقف بعيد الدلالة في حقيقته وفي مغزاه، ولكن المس بل المبتهجة به ساءلت نفسها، كما تقول في الرسالة لأمها، ما إذا كان ابتهاج الأمير أشد من ابتهاجها؟!
وأنى الابتهاج لمثله؟! فإما أن المس بل أساءت التعبير، وقد كانت هذه الرسائل بعجلة محرقة، بين أشغالها الجمة، وإما أنها ما نفذت ببصيرتها إلى أعماق تلك النفس العربية الشعرية التي لا تعدم التصور في إحساسها الشديد.
وهل يدعو المجد الدارس للابتهاج، خصوصا وقد تلت ذلك الفتح العربي فتوحات آسيوية، تترية وتركية، لا تثير ذكراها في العربي سوى الشجون، ولا ينبغي أن نعود إلى ذلك المجد البعيد المضمحل، وما خلفه من طغيان الترك والتتر، لندرك ما كان يجيش في صدر الأمير فيصل من لواعج الغم والأسى، فإن في ماضي الأمير - هذا الماضي القريب - ما يكفينا مئونة التجوال في ربوع التاريخ وبواديه.
كيف لا والأمير يحمل في صدره أعباء عشر سنوات من خيبة الآمال ومن شؤم الجهاد ، ها هو ذا في مستنقعات الملاريا بعسير على رأس حملة تأديبية، وها هو ذا في مستنقعات الكلام في مجلس المبعوثان بالأستانة، وهاكه في سوريا أسير الشبهات، وسمير الجزع، وهاكه في البادية فارا من الطاغية جمال، بل من القدر والاعتقال؛ أهوال في السياسة تتلوها أهوال الحرب في شرق الأردن. هي خمس سنوات مليئة بالحوادث التي تثير في صدر صاحبها كل عاطفة غير الابتهاج.
وإن ما يتلوها لأشد وأنكى، فمن فتح الشام الذي ما عتم أن باخ مجده، إلى مؤتمر فرساي الذي كان فيه الأمير، ممثل العرب، كالحمل بين النمر والأسد،
2
إلى يوم التاج في دمشق، فالملك القصير الأجل، فالفرار الثاني، فيوم ميسلون!
سنتان اثنتان لا غير، ولكن الحوادث التي تزاحمت فيهما، وتراكمت في قلب الأمير فيصل، لا تفقد شيئا من مرارتها لو توزعت على أضعافها من السنين، فأنى لذكريات الماضي البعيد، وإن كان مجده لا يزال حيا زاهرا، وأنى لها وإن تغنت بها امرأة فاتنة، أن تمحو من قلب الأمير فواجع الأمس القريب، أو تغالبها فتنسيه إياها؟!
على أن ميسلون لم تكن المعركة الأخيرة؛ فقد خرج من دمشق يرافقه بعض صحبه الأوفياء من السوريين والعراقيين والإنكليز، فمروا بدرعا فحيفا، ومنها أبحروا إلى أوروبا. الجهاد، سيستأنف فيصل الجهاد، وسيجاهد هذه المرة بغير السلاح الذي حمله على الترك والألمان في شرق الأردن.
ولكن نار الحرب كانت قد أضرمت في جهة أخرى من الخط العربي الطويل. وإن لم تكن المعركة الجديدة، في صورتها الظاهرة معركة فيصل، فقد كان من المقدر أن تخدم أغراضه السياسية.
صفحة غير معروفة