ولو لم يمن الله على العرب بابن سعود لكانت البوادي مسرحا شائعا للغزو والقتال، وللسلب والنهب والفوضى، ولظلت القبائل كما كانت قبله في عداء دائم واحتراب مستمر. لو لم يكن ابن سعود لما كانت نجد والحجاز الآن بلادا موحدة مطمئنة مسالمة، وفيها من عوامل المدنية ما تستطيع أن تنتفع به، ما يلائم اليوم طبائع أهلها البدو والحضر، ويمكنها غدا من الاستزادة عملا باستعدادهم، وتطور أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية.
وكذلك قل في اليمن وسيدها الإمام يحيى؛ فهو حاكم اليمن المطلق، الضابط أمرها بيد من حديد، المدبر شئونها بحزم تنيره الحكمة، وعزم يمده اليقين، الحامي ذمارها، داخلا من أغراض كبار السادة الشخصية، ونزاع القبائل، وخارجا من أطماع الأجانب ودسائسهم؛ أولئك المسيطرين في جوار اليمن جنوبا وعبر البحر غربا. إن الإمام ليدرك السر فيما يفعلون ويقولون، متزلفين كانوا أو مكابرين، فيحمل في سياسته الميزان، وقد علم أن الكفة الراجحة اليوم قد تكون غدا ناقصة، فلا تخدعه الواحدة، ولا تغره الأخرى.
وفي عسير اليوم البرهان القاطع على صحة ما أقول في الحكم المطلق وعكسه؛ فقد كان هذا القطر العربي، في عهد السيد الإدريسي، مثل نجد واليمن، عزيز الجانب، آمنا مطمئنا، وكان أهله مخلدين إلى السكينة، مستمتعين بما في البلاد من أسباب العيش والراحة والرفاهية. ولكن الأحوال ساءت بعد وفاة السيد محمد، فاضطرب حبل الأمن في البلاد، وتزعزعت أركان الحكم في صبيا وجيزان، فسرت في القبائل روح الشغب والفوضى، وتنازعت السيادة القوتان الغالبتان المجاورتان في الجنوب وفي الشمال، ولا يزال عسير موطن الخلاف والنزاع بين الإمام يحيى والملك عبد العزيز، هذه هي إحدى نتائج التفكك في الحكم، والانحطاط في البيت الحاكم. ولولا النزاع بين العاهلين الكبيرين، والخوف من عواقبه المشئومة، لكان التفكك في هذه الإمارة الصغيرة وأمثالها مفيدا للقضية العربية، والوحدة المنشودة.
وماذا أقول فيمن حمل لواء هذه القضية، وجاهد في سبيلها، في ساحات الحرب والسياسة، عشرين سنة، وكان في القطر العراقي ظافرا ببعض أمانيه؟ فهل ينكر أحد أن للملك فيصل، رحمه الله، الفضل الأكبر في استقرار العراق وتقدمه؟! هل ينكر أحد الحقيقة الناصعة الرائعة في جهاده الذي استمر اثنتي عشرة سنة؟ فلولا هذا الجهاد العظيم لما كان العراق اليوم موحدا، ولما كان قد تخلص من الانتداب، ولما كان يسلك الآن الطريق الفسيح القويم، المؤدي إلى حريته واستقلاله.
هذه هي كلمتي لمن يريبهم اهتمامي بملوك العرب، ولمن يغيظهم موقفي العربي. وإني أسألهم، باسم الإنسانية أولا وباسم الوطنية. ثانيا: ألا يستحق الذكر والثناء والإعجاب من يقيمون العدل، ويوطدون الأمن والسلام، في أمة من أمم هذا العالم المضطرب المكترب؟ ألا يستحقون، وهم القائمون بأعباء هذه الأمة العربية، الحب والبذل من أبناء الأمة؟ فلو كان الملك فيصل أوروبيا لرفعه شعبه إلى منزلة بسمرك ودزرائيلي، ولو كان ابن سعود أوروبيا لجعلته أمته بطلا من أبطال العالم. •••
أعود إلى لبنان لأقول كلمة وجيزة، هي كل الحقيقة وكل اليقين، في محنته اليوم، وفيما أشع من حظه يوم كان فيصل سيد البلاد السورية.
ثلاث عشرة سنة مرت على استقلال لبنان المقيد بالانتداب، المثقل بالضرائب، المسربل بسربال السخرية الجمهوري، المسمر بمسامير الفاقة، المكلل بإكليل من الشوك، ومع كل هذا لا يزال في البلاد من ينادون ويفاخرون بالاستقلال، ويقولون بوجوب الانتداب لحمايته وتعزيزه. وبالرغم من كل هذا ليس في البلاد أحد راضيا بحالة واحدة من أحوال لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس في البلاد من يطالب بالاستقلال والانتداب، ولا يندب حظ لبنان في الحالين.
أعجب لشعب يئن من النير، ويصيح قائلا إن النير لازم له ومفيد، لازم لخلاصه، مفيد لسعادته الأبدية، شعب قديس شهيد!
ولكن في لبنان من المفكرين البصيرين الجريئين بالإفصاح عما يجيش في صدورهم، من يرون في هذه الحال شيئا غير معقول، غير طبيعي، شيئا جد منكر، جد فظيع، ويدركون التناقض بين العقيدة الوطنية وحقيقة الحال، وكلهم يستغيثون ويرومون الخلاص.
ولكنهم مختلفون في ما هي حقيقة الخلاص؛ فمنهم من يظنون أنها في إعادة الدستور والحكم النيابي.
صفحة غير معروفة