وقد وصف إدوارد ونسلو
Edward Winslow (1595-1655م)، وهو أحد مؤسسي «نيو إنجلند»،
15
رحيل الحجاج (المهاجرين) من ليدن في عام 1620م، قائلا: إن جمهرة الناس، في تأثرهم الشديد، أخذوا يغنون المزامير «إذ كان الكثير من أبناء طائفتنا ذوي إلمام عظيم بالموسيقى»، غير أن المطالب المعنوية والصعاب المادية كان لها تأثيرها في الحياة الفنية للمستوطنين وأسرهم؛ فقد جلب الآباء والمهاجرون معهم معرفتهم الموسيقية بالمزامير، وعندما وجد هؤلاء المنشقون على الكنيسة الإنجليزية ملجأ دينيا لهم في عالم جديد، بدأ رد الفعل لديهم على العناصر «البابوية» التي كانوا يعيبونها على البروتستانتية الإنجليزية. وكان القادة الأشد تحمسا للمستوطنين المتطهرين عازمين على استئصال أي أثر للروح الكاثوليكية من كنيستهم، بل لقد كان الكثيرون منهم يعتقدون أن من الواجب عدم غناء المزامير؛ لأنها لم تنزل بوحي إلهي، ورأوا أن تحريمها عمل يرضي الله، ومن هنا حرم المتطهرون الأرغن، واستبعدوا الموسيقى كلها تقريبا، سواء منها الدنيوية والدينية والغنائية والمعزوفة.
والواقع أن مصاعب الحياة العصامية الرائدة، التي أرغمت المستوطنين الأوائل على استغلال كل ذرة من طاقتهم في صراعهم من أجل البقاء لم تترك لهم وقتا للترفيه الدنيوي، وإنما استنفد المتطهرون كل طاقاتهم في اقتلاع الغابات وتمهيد الأرض، وحماية أنفسهم من أعدائهم الهنود الحمر المتربصين بهم. وهكذا أصبح العمل والحذر هو الشعار الذي ينبغي الالتزام به إذا ما شاءوا أن يشيدوا كنيسة في العالم الجديد، بينما نظروا إلى الكسل واقتطاع الوقت من العمل للتسلية على أنه خطيئة. ولقد كان المتطهرون يقرنون الموسيقى بالفراغ، ويرون أن الوقت الضائع في اللهو أو الغناء يمكن الإفادة منه على نحو أفضل في زيادة كفالة الأمن للمتطهرين حتى يعلوا كلمة الرب في الأرض.
وعلى الرغم من أن المتطهرين الأشد تحمسا قد تبرءوا من الموسيقى بكل أنواعها، فلا شك في أن الموسيقى ظلت تعزف وتغنى في البيوت، بل إن العداء الذي كان بعض المتطهرين يبدونه نحو غناء المزامير لم يمنع جماهير المصلين من استخدامها في أدائهم لشعائرهم. وقد ظهرت في أواسط القرن السابع عشر طريقة مبسطة لغناء جماهير المصلين للمزامير.
وفي السنوات التالية أصبحت الموسيقى جزءا لا يتجزأ من شعائر العبادة في المذهب البروتستانتي بجميع طوائفه تقريبا، أما عداء الكالفنيين للموسيقى فكان في الأصل جزءا من رد الفعل الفني على التبهرج الديني للكنيسة الكاثوليكية، على حين أن لوثر كان أميل إلى الطقوس والموسيقى الكاثوليكية من تسفنجلي أو كالفان، وكان ينظر إلى الموسيقى على أنها نغمة سماوية يستطيع بها الإنسان أن يتوجه بالصلاة والشكر لخالقه. ومع ذلك فإن الكالفنيين لم يتخلوا تماما عن التراث الموسيقي الماضي، وإنما كانوا راضين عن موسيقى الفنان الكاثوليكي أورلاندوا دي لاسو، يستخدمونها كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ومن جهة أخرى فإن الجزويت (اليسوعيين) الذين قادوا حركة الإصلاح المضادة في الكنيسة الكاثوليكية آثروا أن يتمشوا مع الروح الديمقراطية للشعائر البروتستانتية، حتى لو كان ذلك مؤديا إلى التنازل عن بعض تعاليم «لويولا
Loyola »
16
التي أعرب فيها عن ازدرائه للموسيقى . وقد اعترف أتباع لويولا بأن استخدام البروتستانتيين للغات القومية كانت له قيمة نفسية هائلة؛ لذلك رأوا أن من المفيد للكاثوليكية بنفس المقدار تقديم كتب للأغاني الدينية إلى أشياع طائفتهم. وعلى ذلك فقد كانت الموسيقى وسيلة فعالة في أيدي الكاثوليك والبروتستانت معا.
صفحة غير معروفة