6
ولم يقتصر لوثر على التعلق بموسيقى الكنيسة الأم، بل إنه كان يقتبس كثيرا من الأغاني الكاثوليكية لكي يثري العقيدة البروتستانتية فنيا. وقد اعترف صراحة، في تعليق له على مجموعة من تراتيل الجنازات ظهرت عام 1542م: «لقد أردنا أن نضرب لغيرنا مثلا طيبا، فاخترنا بعض قطع من الموسيقى والأناشيد الجميلة المستخدمة في البابوية، في التسابيح وقداسات الموتى والجنازات، ونشرنا بعضا منها في هذا المجلد ... ومع ذلك فقد غيرنا النصوص، ولم نحتفظ بتلك التي تستخدم في البابوية ... والواقع أن الأغاني والموسيقى جميلة حقا، وإنه ليكون أمرا يؤسف له لو اندثرت.»
7
وكثيرا ما كان لوثر ينضم عندما كان طالبا إلى رفاقه الشبان في غناء الأناشيد المدرسية. وكان دائما ذا ذوق رفيع في حبه للموسيقى، ومنذ أيام دراسته كان في كثير من الأحيان يغني ويعزف مع أصدقائه ألحان كبار الموسيقيين الفلمنكيين والألمان، بصوته «التينور» الجميل والآلة الموسيقية الأثيرة عنده، وهي العود
lute ، وكان يطرب للموسيقى الدنيوية حتى وهو راهب، ولكن نظرته إلى الموسيقى كانت تتضمن من فلسفة أوغسطين قدرا أعظم مما جرؤ على الاعتراف به، وذلك في حملاته المتعددة على ما اعتبره أغنيات دنيوية حسية فاسدة في أيامه. وقد تتبع، بوصفه رائد البروتستانتية، الدور التاريخي الهام الذي قامت به الموسيقى في سبيل دعم المسيحية، ولخص المهمة التي رأى أن على الموسيقى أن تضطلع بها من أجل نشر المذهب البروتستانتي، فكتب يقول: «إن كل مسيحي يعلم أن عادة غناء الأناشيد الروحية نافعة ترضي الله؛ إذ إن الجميع يتعلمون أن الغناء لم يقتصر على أنبياء بني إسرائيل وملوكهم (الذين كانوا يسبحون بحمد الله بموسيقى الصوت البشري والآلات، وبالأغاني والعزف على الأوتار)، بل إن المسيحيين الأوائل، الذين كانوا يغنون المزامير على الأخص، كانوا يستخدمون الموسيقى في المراحل الأولى من تاريخ الكنيسة، بل إن القديس بولس قد شجع استخدام الموسيقى (1-14) وأكد في رسالته إلى «القولوسيين» أن على المسيحيين أن يقفوا أمام الرب بالمزامير والأغاني الروحية الصادرة عن القلب، حتى يتسنى بفضل هذه الموسيقى تعليم كلمة الرب وتعاليم المسيحية والدعوة إليها وممارستها. ولقد قمت، واضعا كل هذا نصب عيني، بجمع عدد من الأغاني الروحية بالاشتراك مع عدة أفراد آخرين، حتى يتسنى البدء في إعداد هذه المادة وجمعها، وحتى نشجع غيرنا، ممن هم أقدر منا على هذا العمل، على القيام به. وقد وزعت الموسيقى في أربع أسطر لحنية تؤديها الأصوات في وقت واحد. وهذا ما أريده لصالح الشباب خاصة؛ إذ إن من الواجب أن يتلقى هؤلاء تعليما في الموسيقى وفي غيرها من الفنون إذا شئنا أن نصرفهم عن الأغاني الحسية الشهوانية ، ونجعلهم يتعلقون بما هو خير ونافع؛ فبهذه الطريقة وحدها يتعلمون - كما ينبغي أن يفعلوا - أن يحبوا ويتذوقوا ما هو خير في ذاته، وأنا لست من أصحاب الرأي القائل إن الكتاب المقدس وحده يكفي، وإن من الواجب رفض كل الفنون واستبعادها نهائيا، كما يقول أصحاب المذهب المخالف، وإنما أود أن تستخدم الفنون كلها، ولا سيما الموسيقى، في خدمة الإله الذي وهبنا إياها وخلفها.»
8
وكان لوثر يدعو إلى أن يحصل كل طفل بروتستانتي على تعليم موسيقي، فكتب يقول: «إنني، من جانبي، أقول إنه لو كان لدي أطفال، وكان في مقدوري تنفيذ هذا الأمر، لأصررت على ألا يقتصر تعليمهم على اللغات والتاريخ، بل يشتمل أيضا على الغناء، والموسيقى والرياضيات جميعها. أليست هذه كلها ملائمة لسن الطفولة، وهي التي كان اليونانيون يدربون عليها أطفالهم في سالف الأزمان، ثم يشب هؤلاء الأطفال رجالا ونساء ذوي مقدرة هائلة، يصلحون لمواجهة كل مقادير الحياة؟»
9
ولقد كانت الأهمية الأخلاقية التي نسبها لوثر إلى الموسيقى - وهي أحد الفنون الحرة - متمشية بدورها مع النزعة الأخلاقية اليونانية؛ فقد كان لوثر بدوره يعد الموسيقى مبحثا عقليا. وظلت الموسيقى في نظر لوثر، كما كانت في نظر أوغسطين، وسيلة لرياضة النفس وتهذيبها أخلاقيا، كفيلة في رأيه بأن تجعل الناس «أرق وأهدأ، وأقوى ضميرا، وأرهف إحساسا».
10
صفحة غير معروفة