alleluia » قد ظهر أصلا في شمال فرنسا في القرن التاسع. وكان القديس أوغسطين والقديس أمبروز قد امتدحا، قبل حوالي 500 عام، تطويل غناء التهليلة أو التسبيحة
Jubilus ، بوصفه حمدا لله دون كلمات. على أنه لم يكن من السهل حفظ التسبيحة، ومن هنا بدأت تظهر فكرة إضافة نص كلامي لمساعدة المغنين على تذكر الألحان الطويلة، وفي البداية كان يوضع لكل نغمة مقطع واحد، ولكن السيكونسة (الاسترسال) أصبحت بمضي الوقت من التعقيد، واكتسبت من الشعبية ما جعلها تشكل خطرا على الطابع الديني للشعائر. وهكذا فإن الكنيسة لم تنظر بعين الرضا إلى هذا التطور لفن «السيكونسة» (الاسترسال)، ولا لفن التروبة (الفواصل) (
troping ) أيضا، والتروبة هي ما يقحم بين الأجزاء التي تغنى من القداس.
ولقد كان فن «السيكونسة» (الاسترسال)، والتروبة (الفواصل) مقتصرا في البداية على الأديرة، ولم ينتقل إلى النشاط الموسيقي للأبرشية الدنيوية للكنيسة إلا فيما بعد، وعندئذ أدخل القساوسة بالتدريج فواصل باللغات المحلية في الشعائر الدينية؛ لكي يشرحوا لجمهور المصلين الأجزاء الغنائية من القداس اللاتيني التقليدي للشعائر الدينية. ولما كان أقطاب الكنيسة لم يعترفوا قط بهما بوصفهما جزأين رسميين من الشعائر الدينية، ونظرا إلى أن مجمع ترنتينو
Trent (1545-1563م) قد اعترض على قيمتهما في الشعائر، وعلى ما فيهما من تحرر شعري، فقد أصدر البابا بيوس الخامس أمرا يحظر فيه استخدام كل «السيكونسات» ما عدا القليل منها، في الشعائر الرسمية للكنيسة، ويحرم تماما استخدام طريقة «التروبة» في هذه الشعائر. أما «السيكونسات» القليلة التي لم يتناولها قرار الحظر، فما زالت محتفظة بمكانتها في الشعائر الدينية إلى اليوم.
ولقد كان لفلاسفة العصور الوسطى تأثير كبير في مجرى الموسيقى، سواء أكان هذا التأثير مباشرا أم غير مباشر؛ إذ كان القديس أوغسطين يؤمن بحرارة بأن من الخير حظر الموسيقى الوثنية والأدب الوثني حظرا تاما، حتى لا يؤديا إلى إغراء المسيحيين على قراءة الشعراء الرومان، أو حضور المسارح الرومانية. كذلك كان هناك جانب صوفي في تقديره للموسيقى؛ ذلك لأنه كان يؤمن بالمبادئ الفيثاغورية التي كانت ترد ظاهرة الموسيقى إلى علاقات عددية خاصة، وتحاول تفسيرها من خلال هذه العلاقات، وهكذا رأى أوغسطين أن الله قد خلق الكون بأن جمع كل العناصر بالنسب الصحيحة بدقة، حتى يتم التوازن المنسجم، والتوافق بين كل عنصر وبين جميع العناصر الباقية وفقا للمشيئة الإلهية. ومن ذلك استنتج أنه إذا كان عنصر الإيقاع في الموسيقى نسخة محاكية لأنموذج كوني، فلا بد أن الموسيقى تمثل الحركة الكونية ذاتها على نطاق محدود. ولقد كانت هذه النظرة أفلاطونية، رددها أفلوطين قبل أوغسطين. كذلك مضى بويتيوس بهذه الحجة خطوة أخرى في طريق التأمل الفلسفي؛ إذ جعل من النظرية الأفلاطونية أساسا لتقيم الموسيقى بوجه عام، ولكن مهما كان الفلاسفة نظريين في تقديرهم للموسيقى، فلسنا بحاجة إلى تفكير طويل لكي ندرك مدى تأثير نظرياتهم الميتافيزيقية والأخلاقية في مجرى التطور الموسيقي.
ولم يكن الفلاسفة الكاثوليكيون الذين عاشوا في القرون التالية للألف عام الأولى من المسيحية يقلون عن الفلاسفة السابقين عليهم تزمتا في آرائهم الأفلاطونية في الموسيقى. من الجائز أن مواقفهم الفلسفية كانت في بعض الحالات أقرب إلى النزعة الإنسانية من مواقف السابقين عليهم، غير أن نظرتهم إلى الموسيقى ظلت تماثل نظرة هؤلاء الأخيرين في طابعها الصوفي. وهكذا فإن الاتجاه الإنساني الذي نجده كامنا في فلسفة أبيلار
Abelard ، وفي إيمان القديس فرنسيس
St. Francis (الأسيزي) ولاهوت القديس توما الأكويني؛ هذا الاتجاه لا يمتد إلى كتاباتهم في الموسيقى، وطرأ تغيير كبير على الآراء التي كان أبيلار والقديس فرنسيس يقولان بها عن الموسيقى وهما بعد طالبان للعلم، عندما انخرطا في السلك الرسمي للكنيسة؛ ذلك لأنهما عندما أصبحا من رجال الكنيسة، صارا ينظران إلى المتعة الحسية التي كانت الموسيقى تجلبها لهما في شبابهما على أنها ذات طابع لا ديني؛ إذ إن موسيقى أيامهم الخوالي كانت توحي باللذة أكثر مما توحي بالتوبة، وتهيب بالجسد لا بالروح.
وقد وجد القديس أوغسطين وبويتيوس تشابها بين النظام الموجود في الموسيقى، وبين النظام الأخلاقي الذي يسود جميع أرجاء الكون. وذهب هذان الفيلسوفان، اللذان كان أحدهما مسيحيا والآخر وثنيا، إلى أن الموسيقى المتناسقة تحاكي نظام الكون، ورأى الاثنان معا أن للموسيقى القدرة على رفع مستوى أخلاق الإنسان أو الحط منها. كذلك أيد أوغسطين وبويتيوس النظرية الأفلاطونية القائلة إن الموسيقى نوع من الرياضة يمكنه أن يساعد على تهذيب العقل، وإن الرياضيات بالمثل تبعث نظاما متوافقا في الكون. وقد فسر أتباع بويتيوس هذا الرأي الأفلاطوني بأنه يعني أن الموسيقى علم تسري عليه نفس القوانين الرياضية التي تبعث النظام في الكون، والانسجام بين الأفلاك، وعلى ذلك فمن الواجب ألا تقل صرامة علم الموسيقى عن صرامة القوانين الرياضية التي يسير بمقتضاها الكون. وقد قدر لرأي بويتيوس هذا أن يسيطر على التفكير الجمالي في الموسيقى طوال قرون عديدة تالية.
صفحة غير معروفة