الفيلسوف وفن الموسيقى

فؤاد زكريا ت. 1431 هجري
168

الفيلسوف وفن الموسيقى

تصانيف

ولقد أخفقت حركة موسيقى الاستعمال بعد وقت ما، غير أن «هندميت» ظل يحتفظ في كتاباته المتأخرة بالمفاهيم الجمالية لهذه الحركة؛ فقد ظلت الموسيقى بالنسبة إليه صنعة، لا فنا مستمدا من وحي إلهي.

40

وهو ينظر إلى كتابة الموسيقى على أنها عمل إيجابي بناء؛ فالموسيقى تصنع، وليست مستمدة من الإلهام فحسب. هذا ما كان هندميت خليقا بأن يقوله، وإن يكن يبادر فيضيف إلى ذلك أن خلق الموسيقى يبدأ بالانفعالات، وتنتهي مهمته بإثارة الانفعالات.

كذلك كان هندميت فيما مضى مهتما، لفترة ما، بالآراء الجمالية لشونبرج، ولكنه تخلى بعد ذلك عن أسلوب الاثني عشر صوتا، وتحول إلى كتابة موسيقى يظهر فيها بوضوح النظام المقامي بالمعنى التقليدي. وهو يتميز أيضا بأنه أكثر المؤلفين الموسيقيين في القرن العشرين اهتماما بالموسيقيين السابقين على باخ، وفي معظم الأحيان تكون البوليفونية المعقدة في موسيقاه محاكاة لفن الكنترابنط في القرن السادس عشر، حين كانت الموسيقى صنعة لا فنا، وحين كانت تخاطب الكثرة لا القلة.

الفصل التاسع

معايير لفلسفة جمالية في الموسيقى

القسم الأول: الفيلسوف والموسيقى

دأب الفلاسفة ما عدا قلة نادرة منهم، على القول إن قيمة الموسيقى إنما تكون في تأثيرها . ومضوا في تفكيرهم قائلين إنه إذا كانت قيمة الموسيقى تنحصر في التأثير الذي تحدثه في السامع، فإن الوظيفة الصحيحة للموسيقى ليست نقل أصوات وإيقاعات جميلة تقتصر على بعث السرور في الحواس، وإنما هي إحداث استجابات معينة في السامع تجعل منه شخصا «طيبا أو فاضلا». وهكذا يرى الفلاسفة أن الموسيقى لو كانت تقتصر على تقديم متع عابرة، ولا تحضنا على أداء الأفعال «الفاضلة»، وعلى أن نصبح أشخاصا «أفضل»، لما كانت تزيد عن مجرد لذة جوفاء، ولكانت بالتالي مضيعة لجهد الإنسان على نحو كان يستطيع الانتفاع به في أغراض أفضل. وينتهي الفلاسفة من ذلك إلى أن الموسيقى ينبغي أن تؤدي إلى «السلوك القويم»، وإلا لكانت مخدرا يؤدي بنا إلى الهروب من الواقع، والتحليق في أجواء عالم الخيال المحض.

أما الموسيقيون الخلاقون، فكانوا عادة يتجاهلون الآراء الأخلاقية للفلاسفة بشأن الموسيقى؛ فقد كان المؤلف الموسيقي يلتزم طوال حياته عقيدة فنية لا تجعل قيمة الموسيقى منحصرة في جعل الإنسان «فاضلا»، أو في بعث حالة من «الكمال»، وإنما تجعلها كامنة في الأنغام المحسوسة والإيقاعات المتحركة التي تمتع الحواس وتثير الانفعالات؛ فقد ظل الموسيقي ينادي على الدوام بأن الوظيفة الحقة للموسيقى هي الإهابة بالعاطفة، على حين أن الفيلسوف ظل على الدوام يزدري الموسيقى؛ لأنها لا تهيب بالعقل قبل أي شيء آخر. وهكذا يتفق الفيلسوف والموسيقي معا على أن الموسيقى تهيب بالعواطف قبل كل شيء، غير أن اهتمام الموسيقي ينصب على إثارة الانفعالات لأغراض المتعة فحسب، أما الفيلسوف فيؤكد أن الانفعال الذي تثيره الموسيقى ينبغي أن يكون من نوع يمكن توجيهه لغاية خيرة، هي تكوين الشخصية الأخلاقية؛ فالموسيقار يهتم بخلق تجربة جمالية، أما الفيلسوف فيهتم بالنتيجة الأخلاقية.

ولقد كان المؤلف الموسيقي يصبو دائما إلى أن ينقل بموسيقاه إلى الأذهان الأخرى إحساسا بالأصوات النغمية والانطباعات الموجودة في العالم المحيط به. وما أشبهه بشخصية «جان كريستوف» عند رومان رولان، تلك الشخصية التي ترجمت كل تجربة إلى لغة الموسيقى؛ فمؤلف الموسيقى لا يخلقها لكي نخاطب بها العقل أساسا، ولا يكتبها لكي يهيب بالحاسة الخلقية، ولا يؤلف موسيقاه لكي يرشد ويعظ، وإنما يخلق موسيقاه لكي يوقظ الانفعالات.

صفحة غير معروفة