ويقول ابن أبي أصيبعة: «كان متفننا في العلوم، لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه.»
والشهرزوري يقول: «كان عالما بالرياضات والمعقولات، وتصانيفه أكثر من أن تحصى.»
وأقوال العلماء الغربيين في ابن الهيثم تجري على مثل هذا النمط، فيقول “Suter”
في مقاله عن ابن الهيثم في دائرة المعارف الإسلامية: «وكان أحد أقطاب الرياضيين والطبيعيين من العرب؛ وكان أيضا عالما بالطب وبسائر علوم الأوائل خصوصا فلسفة أرسطو». ويذكر دي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام» الذي ترجمه الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريده: «ونجد في القاهرة في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس من الهجرة) رجلا من أعظم الرياضيين والطبيعيين في العصور الوسطى هو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم»، ويقول
Sarton : «أكبر عالم طبيعي مسلم، ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر في جميع الأزمان، وكان أيضا فلكيا ورياضيا وطبيعيا وكتب شروحا عدة على مؤلفات أرسطو وجالينوس.»
ويتبين من ذلك أن الآراء متفقة على أن ابن الهيثم من الطراز الأول بين الرياضيين والطبيعيين في الشرق والغرب، وتكاد تتفق الآراء على أن مرتبته في سائر العلوم الفلسفية دون هذه المرتبة.
ولقد كانت آراء ابن الهيثم الرياضية والطبيعية موضع الدراسة والبحث منذ عهد بعيد. أما مؤلفاته في سائر أجزاء الفلسفة فهي على كثرتها وخطر كثير من موضوعاتها لم تتناولها أيدي الباحثين ولم ينشر منها شيء مترجما ولا في لغته الأصلية. ولا يقوم هذا دليلا على أن فلسفة ابن الهيثم الإلهية وما إليها أقل طرافة وعمقا من مذاهبه في الطبيعة والرياضة. وليس من الميسور الآن تكوين صورة واضحة مفصلة لآراء ابن الهيثم في المنطق وما وراء الطبيعة والسياسة والأخلاق؛ إذ ليس في متناول أيدينا عن هذه الآراء إلا بعض ما نقله المترجمون له، وإلا إشارات وردت استطرادا في بعض رسائله الرياضية أو الطبيعية، ومن هذه المصادر القليلة المجملة نستطيع أن نلم إلماما بمذاهب ابن الهيثم الفلسفية.
ينقل ابن أبي أصيبعة من خط ابن الهيثم في مقالة له قوله: «إني لم أزل منذ عهد الصبا مرويا في اعتقادات هذه الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم ما تعتقده من الرأي. فكنت متشككا في جميعه، موقنا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق ... فخضت لذلك ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظ من شيء منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا، ولا إلى الرأي اليقيني مسلكا جددا، فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية وصورتها الأمور العقلية، فلم أجد ذلك إلا فيما قرره أرسطوطاليس ... فلما تبينت ذلك أفرغت وسعي في طلب علوم الفلسفة؛ وهي ثلاثة: علوم رياضية وطبيعية وإلهية». وبعد أن عدد مصنفاته قال: «ثم شفعت جميع ما صنعته من علوم الأوائل برسالة بينت فيها أن جميع الأمور الدنيوية والدينية هي من نتائج العلوم الفلسفية»، ويقول بعد ذلك: «فإن ثمرة هذه العلوم هو علم الحق والعمل بالعدل في جميع الأمور الدنيوية، والعدل هو محض الخير الذي بفعله يفوز ابن العالم الأرضي بنعيم الآخرة السماوي.»
وهذا الرأي الذي يرد إلى الفلسفة وعلومها كل شئون الدنيا والدين، ويجعل علم الحق وعمل العدل نتيجة لها، ليس هو رأي الفلاسفة الإسلاميين من قبل ابن الهيثم ولا من بعده؛ فإنهم يجعلون علم الحق وعمل العدل شركة بين الفلسفة والدين على نحو يختلف تفصيله باختلاف الفلاسفة، على أن لابن الهيثم كتابا في إثبات النبوات، وإيضاح فساد رأي الذين يعتقدون بطلانها، وذكر الفرق بين النبي والمتنبي، ولوددنا أن يتسنى الاطلاع على هذا الكتاب لنعرف ما الذي أبقى ابن الهيثم للنبوة بعد أن أعطى للفلسفة ما أعطى.
ولابن الهيثم عناية بالمنطق الأرسطاطاليسي وله فيه مؤلفات لم تصل إلى الباحثين، وهو يعرض في بعض كتبه الرياضية والطبيعية إلى أبحاث تتصل بالمنطق، ففي كتاب المناظر يعني ابن الهيثم بتحليل الإدراك إلى عناصره المختلفة تحليلا طريفا؛ ويثير في هذا الكتاب وفي غيره موضوعات جليلة تتعلق بمنهج البحث العلمي واعتماده أولا على الأمور الحسية وتتعلق بقيمة النظرية العلمية ووظيفتها. وابن الهيثم يطبق المناهج المنطقية فيما يعالجه من الطبيعيات والرياضيات، وقد أشار إلى كثير من ذلك الأستاذ مصطفى بك نظيف في محاضرته القيمة عن «الحسن بن الهيثم والناحية العلمية منه وأثره المطبوع في علم الضوء.»
صفحة غير معروفة