أيها الصندوق!
فيك تنازع البقاء وبقاء الأصلح، فيك استكانة الضعيف وغلبة القوي، فيك الضعيف يكره العراك، وفيك القوي يصول ويجول ويدعو إلى النزال، فيك الجمال، وفيك القبيح. - استأنست أيها الكتكوت بالإنسان صغيرا، ثم علمتك التجارب ففررت منه كبيرا.
وكنت مادة صالحة للغذاء، كما كنت مادة صالحة للأدب، فمن قديم استعيرت منك الاستعارات اللطيفة، والأبيات الجميلة، فقد قال الشاعر:
أرى فتنة هاجت وباضت وفرخت
ولو تركت طارت إليها فراخها
وفي حديث عمر: «يا أهل الشام تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ».
ثم قالت العامة: «الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح».
وأخيرا، فيك سر الحياة الغامض - كيف دبت الحياة فيك يوم كنت بيضة، وكيف تطورت جنينا، وكيف نبض قلبك لأول مرة، وكيف خرجت إلى هذا الوجود، وكيف تموت، ولم خرجت ولم تموت؟ لو أفصحت لنا عن كل هذه الأسرار لكشفت سر الوجود، ولما كان هناك مجال لفلسفة ولا حكمة؛ ولكنك أعجزت الفلاسفة، إذ كتمت سرك بين جناحيك، فهامت الفلاسفة على وجوهها، وارتبكت في تفكيرها.
إذا فيك أيها الصندوق الصغير، كل ما في العالم الكبير، من معاني الحياة وغوامضها وأسرارها، وفيك كل مظاهر الإنسان على تبجحه وغروره - وفيك ما حير العقول قرونا، وأجهد الفكر أجيالا. وهل العالم إلا لغز، لو حل جزؤه لحل كله؟ ...
الأحنف بن قيس
صفحة غير معروفة