فإذا حان الظهر جمع «سيدنا» من كل ولد مليمين أو ثلاثة أو خمسة، ثم بعث بولد كبير فأتى له بماجورين مملوءين: أحدهما فيه قليل من فول نابت وكثير من مرق، والآخر مملوء مخللا بمائه وخله؛ وتحلق الأولاد حلقة، وأخرج كل رغيفه، وكان قد أحضره معه في الصباح تحت إبطه، وضربوا بأيديهم في الماجورين وأكلوا هنيئا مريئا؛ وقد رحمني الله من تمثيل هذا الفصل إذ كان بيتنا بجوار الكتاب أستطيع أن آكل فيه وأعود - وبين هؤلاء المريض والقذر ومن تلوثت يده بالحبر ومن أصيب بعاهة.
لا تعجبن من هالك كيف ثوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا •••
كان سيدنا غريب الأطوار، عرف في الحي باسم الشيخ سيد المجذوب، يلبس المرقع من الثياب، فلم أره يوما يلبس «مركوبا» جديدا ولا عمة نظيفة ولا قباء ولا عباءة جديدين، فكأنه كان يتحرى القديم من كل شيء ويشتريه؛ كان يتزهد في أكله ولبسه وحديثه، ويهزأ بالناس ولا يعيرهم التفاتا؛ فهو يمشي مشيا يشبه الجري، ويأكل في الشارع وهو على هذه الحال، وإذا ناداه مناد لا يلتفت إليه؛ فكان بذلك يلفت أنظار الناس والأطفال، ويعجب منه بعضهم، ويتبرك به بعضهم، وكان في المجالس العامة غريبا ينتحي ناحية وحده ويفر من الناس ويستوحش منهم، وفي مجالسه الخاصة واعيا أنيسا لطيفا.
لم أره مرة يقرأ في كتاب، وما أظنه كان يعرف ذلك، ولكني مع هذا أذكر له حادثة حيرتني حقا - فقد خرجت من كتابه، وأتممت التعليم في مدرسة ابتدائية، ثم قطعت مرحلة بعدها في التعلم، ثم ذهبت إلى مدرسة القضاء ومكثت فيها نحو أربع سنوات؛ ثم لقيت سيدنا في الطريق فسلمت عليه في احترام وإجلال اعترافا بفضله علي في أول مراحل التعليم، ولكني أطوي بين جنبي إدلالا بنفسي عليه، فأين هو الآن مني؟ لقد درست طبيعة وكيمياء ، ودرست رياضة نظرية واسعة من حساب المثلثات وتوافيق وتراتيب لوغارتمات، ودرست علوما دينية مختلفة الأشكال والأنواع، وعلوما مدنية من تاريخ وأصول قوانين ونظام إدارة وما إلى ذلك - فأين سيدنا من هذا كله وهو لا حظ له من علم إلا أن يحفظ القرآن؟ ولكن ما أدهشني حقا أنه أخذ يسألني عن حالي، وجرى من ذلك إلى الإدلاء برأيه في العالم وفلسفة الكون عن طريق صوفي، فإذا أنا أسير معه ملتذا من حديثه معجبا بقوله إعجابا يفوق ما كنت أضمره لأساتذتي في المدارس العالية، وإذا أنا أذهب معه حيث يذهب وأجلس معه حيث يجلس حتى أتم حديثه الممتع اللذيذ في ساعتين أو أكثر، ولوددت أنه أطال أكثر مما كان - لست أذكر الآن حديثه وقوله، ولا أذكر ماذا كانت نظراته في الحياة، ولكني أذكر لذة حديثه وفائدة درسه. •••
ثم ذهبت أيام وجاءت أيام، وإذا لي ولد، وإذا بي أرسله إلى «روضة الأطفال»، وإذا مكان الكتاب ذي السبيل والحصر، بناء فسيح ذو حديقة غناء، وتخت وأدوات شتى، ومكان العصى و«الفلقة» بيانو وآلات موسيقية، ومكان مواجير الفول والمخلل، لبن وبسكوت في الساعة العاشرة، وأكل نظيف يشرف عليه الطبيب في الظهر، ومكان برنامج كتابنا الذي ليس فيه إلا حفظ القرآن برنامج دقيق مفصل محدود بالساعة والدقيقة، فيه غناء وفيه لعب، وفيه مبادئ القراءة، وفيه ما شئت من تنوع واختلاف، ومكان سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن آنسات عزيزات.
وأتى ابني يوما يقول: إن «أبلة» فلانة علمتهم اليوم درسا جديدا قالت: هذه «ستي» ا، وهذه «ستي» ب، وستي ا لا شيء عليها، وستي ب من تحتها نقطة؛ فقلت: «أين هذا مما كنا نتعلمه من أ ألف، با با ليف، بو با واو، بي بايه»؟
ورأيته ينشد أناشيد «سمير الأطفال» ونحوها، فقلت: أين أنت من أبيك، وقد كان ينشد في العصر قبل الذهاب إلى البيت الأناشيد الدينية.
ورأيته يزكم فيجلس في البيت، ثم يذهب إلى المدرسة فتأبى عليه إلا أن يأتي بشهادة طبيب بأنه برئ ولم يكن مرضه معديا، فقلت: لحا الله زمانا لم نكن نعرف فيه طبيبا، وكان حولنا في الكتاب مرضى لا يعرفون أن الزكام مرض، وكان أصحاؤهم ومرضاهم يشربون من زير واحد بكوز واحد.
ورأيته في سنه لا يحفظ شيئا، وكنت وأنا في سنه أحفظ جزءا كبيرا من القرآن.
صفحة غير معروفة