لو جرى الأمر على المعقول لكان المسلم من أنظف الناس في العالم، فقد ربطت صلواته الخمس بالوضوء، وفرض عليه الاستحمام في أوقات، وكان أول باب من أبواب فقهه باب الطهارة.
وأغتبط إذ أسمع وصف «ابن سعيد» لمسلمي الأندلس فيقول فيهم: «إنهم أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم. وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائما، ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها».
ويؤلمنى أشد الألم ما ذكره ابن سعيد نفسه، وقد زار القاهرة، وركب منها حمارا إلى الفسطاط إذ يقول: «فأثار الحمار من الغبار الأسود ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهت، وقلت:
لقيت بمصر أشد البوار
ركوب الحمار وكحل الغبار»
ألم من منظر الفسطاط، وقال: إنه رأى شوارعها غير مستقيمة، ورأى حول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، ورأى البياعين يبيعون في مسجد عمرو، والناس يأكلون فيه، ورأى في زوايا المسجد العنكبوت، قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان، ورأى حيطانه مكتوبا عليها بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتابة فقراء العامة، إلخ ...
آلمني هذا الوصف لمصر، ولو زارها اليوم لما عثر بحماره، ولأقلته سيارة فخمة من باب زويلة إلى الفسطاط في أرض معبدة ممهدة، لا تثير غبارا ولا تدنس ثيابا، ولرأى مسجد عمرو نظيفا، لا يأكل فيه آكل، ولا يكتب على حيطانه كاتب.
ولكن هل كان يعدل عن حكمه القاسي في مقارنته بين أهل مصر وأهل الأندلس في النظافة؟ ذلك ما أشك فيه كل الشك.
لست أدري: لم لم يلتفت الدعاة إلى هذا الأمر في الأمة، فيدعون ويلحون في الدعوة إلى النظافة، ويضعون الخطط الدقيقة لها، فإنها خير وسيلة للتقريب بين طبقات الأمة، فلا يأنف بعد مثقف أن يجلس مع المثقفين، ولا متعلم أن يجالس غير المتعلمين، وفي هذا الاختلاط نشر للثقافة، ودعوة للآداب العامة وغلبة للعنصر المهذب.
يظن الناس أن النظافة غالية، وأنها مرتبطة بالغنى، وهذا خطأ بين، فكم من غني قذر، ومن فقير نظيف؛ والأمر يتوقف على تعود النظافة أكثر مما يتوقف على المال، فليست النظافة أن تلبس أغلى اللباس، وأن تأكل أفخم الطعام، وإنما النظافة أن تلبس نظيفا ولو كان أحقر الثياب، وأن تأكل نظيفا ولو كان أحقر الطعام.
صفحة غير معروفة