وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم، منزلة لا يصل إليها العقل إلا بعد نضجه. أما الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها، فأكثر ما يعجبهما الكم؛ فالريفي خير «الخيار» عنده ما كبر حجمه وبيع بالكوم، والمدني خير «الخيار» عنده ما نحف جسمه وكان «كالقشة» وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف؛ فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجرا رأيت أكثر الترغيب بالكم «فأربعون ظرفا وجوابا بتعريفه»، و«دستة أقلام رصاص بصاغ»، وهكذا؛ وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور؛ فهم يعلمون أنهم أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد؛ فهم يأتونهم من نواحى ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من «العال» أو «عال العال»؛ لأن هذا تقدير للكيف، وليس يقدره إلا الخاصة.
وكل إنسان قد مر بدور الطفولة، والأمم جميعها مرت كذلك بهذا الدور؛ فعلق بأذهانهم تقدير الكم، ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتقوا؛ وأصبحوا - حتى الخاصة منهم - ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي؛ وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر منه الفلاسفة وإلى حد. ألا ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام ولو لم نعرف قيمته؛ ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره أول وهلة من غير أن نعرفه؛ وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس، واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلا من خداع الكم؛ ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نتبين الكيف.
ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة، فنعتقد فيه العلم والدين، مع أنه لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين؛ وإن كانت ثمة علاقة فعلاقة الضدية؛ لأن الدين محله القلب، والعلم موطنه الدماغ؛ وإذا ملئ القلب دينا والدماغ علما احتقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي؛ بل هو إن امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم، واعتقد أنه أبعد ما يكون عما ينشده من دين وعلم؛ وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.
وقديما أدرك العرب خداع الكم، فقالوا: «ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الد خل».
وقال شاعرهم:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد مزير
1
ويعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
صفحة غير معروفة