كذلك من مظاهر هذا الشعر الحديث التأمل في صغائر الأمور وعظائمها على السواء بنظرة نافذة كشافة، واقتران الحسيات بالمعنويات، وكثرة الألفاظ التصويرية، والتعبير الرمزي الجريء، واعتبار اللغة أداة لا غاية. ونظن أن هذه مظاهر لا تحتاج إلى دفاعنا عنها فهي وليدة النظرة الشعرية الشاملة. ومهما أسيء تفسير هذه المظاهر فلا يختلف اثنان في تعدد وجوه الكلمات العربية وسماحة أساليبها واتساع بيانها، وأن اللغة التي تحتمل الخلاف الكثير لا يجوز أن يضيق على شعرائها تضييقا تمليه الأهواء فإذا بها تجعل من هذا الشعر «مثلا أعلى» ومن نده «مثلا أدنى»! وقد أعجبتني بهذه المناسبة كلمة حصيفة لأحد نقادنا العصريين هو الأديب الفاضل محمد عطية يوسف قال فيها:
أنعى على الأدباء الذين يتصيدون الخطايا اللغوية تعبهم الضائع لأن لغتنا فيها بحمد الله لكل كلمة غير وجه ولكل عبارة غير توجيه، فإن كان مقصدهم ابتغاء المثل العليا فهذا سرف، وإن كان غرضهم إيهام الناس بأن لهم بصرا بالحروف فهذا غرور! ولم يتهيأ الكمال لأبي عبيدة والأصمعي وخلف الأحمر فقد لحنوا وصحفوا وهم هم، فكيف يتهيأ لفلان وعلان وترتان من أدباء اليوم؟!
ونكرر أن مثل هذه الملاحظة لا تعني شيئا من التهاون باللغة، وإنما تشير إلى أن الروح الفقهية لا تتفق وروح الفن، وأن حرية الشعراء الناضجين المستوعبين هي لخير الشعر واللغة، فهم رواد الابتداع في كثير من تعابيرها الرشيقة الحساسة. وليس بدعا إذن أن تجمع نظرتهم الحرة المستوعبة ما بين الحسيات والمعنويات، وأن تخترع الكثير من الألفاظ التصويرية، وأن ترى الشعر والفلسفة في المشاهد المألوفة، وشواهد ذلك في هذا الديوان وما قبله من دواويننا ليست بالتي يعتذر عنها، فروح العصر تمليها وستبثها وستشيعها في الشعر الجديد. وليس في شيء من هذا تقليد مقصود لأي ثقافة معينة فإن الروح العصرية روح أممية وهي في مصر تجمع بين نزعات الشرق والغرب، فمن الطبيعي المحمود أن تمثل ذلك ومن غير المحمود أن يتخلى شعرنا العصري عمدا عن هذه المؤثرات الطبيعية ثم يتعمد تقليد القدماء لينال رضاء المحافظين وهتافهم النابي بألمعيته!
وليس من شك في أن الإحساس في الشعر أسبق في القوة من قدرة التعبير ويجب أن يتضح أولا، كذلك لا شك في أن الشعر كالجمال يوجد لذاته، والشعر يمثل التجارب الوجدانية قبل أن يصفها وصفا سواء أجاء التعبير صريحا أم رمزيا، وليس لناقد أن يتعرض للشعر بنقده ما دام جاهلا لهذه العناصر.
16 •••
لا يسأل الشعر عن نفسية صاحبه، فخواطر الحكيم وخواطر المجنون وخواطر الطفل الساذج كلها شعر إذا عبر عنها بطريقة شعرية، ولكن أرقى الشعر هو ما لا ينافي في روحه الحقيقة العالمية. وهذا الشعر العالي يجب أن يكون مرآة صادقة للب الحياة الخالدة المتفائلة، ولا يجوز أن يكون التشاؤم فيه متناولا صميم الحياة، وإن جاز أن يتناول مظاهرها في ثورته على الباطل.
ولا مشاحة في أن الشعر الذي يساء به إلى الأدب لا يعبر عن شيء من ذلك، وإنما هو في غالبه لعب بالألفاظ وبالرنين. فكثير منه مغالطات في الحقائق ورجوع بالإنسانية إلى الوراء، لا يدعمه شيء من التصوف البصير، ولا من روح العلم المتفائل، ولا من الشعور بمجد البشرية، ولا من الإيمان بالطبيعة الحكيمة، ولا من الحماسة للحق والجمال. هذا الشعر السقيم بل هذا النظم العاثر عبارة عن صور أخرى لتشابيه واستعارات صناعية أو نماذج من شكوك الجهل وطغيان السوداوية أو صور من الأمراض النفسية، وسيان قدم لنا باسم المحافظة أو التجديد فلا قيمة فنية له ما دام بغيضا كريها مشوه الأداء لا يسنده شيء من الطبيعة الفنية.
إن الشعر في روحه وغايته توأم للفلسفة،
17
وجميع الأنبياء كانوا في روحهم شعراء، والشاعر الناضج لا يتجنب الدوافع الشعرية في كل شيء: في الطريق، في البيت، في المجتمع، في الوحدة، في الأرض، في السماء، في أتفه الحشرات، في أعظم الأجرام، كلها سواء عنده، وشاعريته الفنية تقبس منها جميعا عناصر الخير والجمال والحق.
صفحة غير معروفة