بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاة؛ لكون محله هو القلب، قالوا: وبهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي، واستدلَّ بعضُهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام، وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب، وهو حجة ظنية عند (جماعات) (^١) من الأصوليين، وإليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله:
وَهُوَ (فِي) (^٢) البَعْضِ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبْ ... يُسْمَى لُحُوقَ الفَرْدِ بالذي غَلَبْ (^٣)
ومعلوم أن الاستقراء هو: تَتَبُّعُ الأفراد حتى يغلبَ على ظنه أن ذلك الحكمَ مُطَّرِدٌ في جميع الأفراد، وإيضاح هذا أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل، قالت جماعة منهم: دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام، وذلك أنهم قالوا: تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولًا مفرطًا زائدًا على المعهود زيادة بينة، فوجدنا كلَّ طويلِ العنق طولًا مفرطًا ناقصَ العقل؛ وذلك لأن طول العنق طولًا مفرطًا يلزمه بُعْد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ، وبُعْد المسافة بين طرفيه قد يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه، فيظهر فيه النقص، وهذا الدليل كما ترى ليس فيه مقنع، وإن كان يُشَاهَدُ مِثْلُهُ في الخارج كثيرًا.
فَتَحَصَّلَ من هذا أن الذي يقول: إن العقل في الدماغ وحده، وليس في القلب منه شيء، أن قوله في غاية البطلان؛ لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة كما ذكرنا بعضه، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله ﷺ، وهو إن كان كذلك ليس بمسلم.
ومَنْ قال: إنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيء، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه، [*وادعاء بعض متأخريهم أنهم راقبوا المفكر وقت تفكيره، وتوصلوا ببعض الأجهزة لمحل الحركة الفكرية فوجدوه في الدماغ، وذلك يدل على أنه في الدماغ، فليس فيه مقنع، ولو كان لا يخالف الوحي، فكيف وهو يخالف كلام الله ورسوله ﷺ ولا ملازمة بين الحركة والإدراك، ولا مانع من كون الحركة في الدماغ، والإدراك في القلب، ولو كانت الحركة تستلزم أن يكون محلها محل الإدراك، فإن القلب أكثر حركة من الدماغ، وإن قالوا: القلب يتحرك دائمًا، والحركة الدماغية تختص بوقت الفكر، فهي أخص بالإدراك من القلب، فالجواب بالمنع، بل الأنسب أن يكون الإدراك بما هو أكثر حركة؛ إذ لا مانع من أن حركته وقت التفكير هي التي بها الإدراك؛ ولأن الإنسان لا يخلو غالبًا من تفكير، وحركته وقت النوم الذي ليس فيه تفكير لا يمتنع عقلًا الإدراك بحركته وقت التفكير، والوحي يشهد له؛ لأن محل الإدراك في القلب، وعلى كل حال فالعقل السليم لا يجزم باستلزام الحركة محل الإدراك، والآيات القرآنية التي قدمنا تدل على أن محل العلم والفقه الذي هو الفهم بكثرة هو القلب، ومما يوضح ذلك ترتيبه نفي العلم والفقه بالفاء على الطبع على القلب، والفاء من حروف التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته، وسها فسجد، أي: لعلة سهوه.
ومن الآيات التي قدمنا قوله تعالى في التوبة: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة، الآية (٨٧)]، فترتيبه: ﴿فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ بـ "الفاء" على قوله: ﴿وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ يدل على أن نفي الفقه الذي هو العلم عنهم، علته الطبع على القلب، ونظيره قوله في سورة المنافقين: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ...﴾ [المنافقون، الآية (٣)]، فرتب عدم الفقه على الفقه بـ "الفاء" على الطبع، ونظيره قوله في التوبة أيضًا: ﴿رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة، الآية (٩٣)]، فرتَّب أيضًا نفيَ العلم بـ "الفاء" على الطبع على قلوبهم، فدلَّ على أن الطبعَ على القلب هو علةُ عدمِ الفهم،
أي: فهم لا يفقهون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، فهم لا يعلمون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، والآيات القرآنية لم تجعل للدماغ أثرًا في العلم ولا في الفهم ألبتة كما ترى*] (^٤).
ومَنْ جمع بين القولين، فقوله جائز عقلًا ولا تكذيب فيه للقرآن ولا للسنة، ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإن قام عليه دليل من عقل أو استقراء محتج به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله تعالى، وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى (^٥).
وأما الجواب على المسألة الثانية:
فهو أن ما ذكرتم من أنَّ القرآن (العظيم) (^٦) فَرَّقَ بين المشركين وبين أهل الكتاب، واستشهدتم لذلك بآية المائدة: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ...﴾ الآية [المائدة، الآية (٨٢)]، فهو كما ذكرتم؛ لأن العطف يقتضي بظاهره الفرق بين
_________
(^١) في (أ): (جماعة).
(^٢) في (أ): (لدى)، والصواب الأصل، المراقي مع النثر (ص ٥٦٧).
(^٣) البيت عبارة عن تعريف الاستقراء غير التام، وهو أن يكون ثبوت الحكم في الكليات بواسطة إثباته بالتتبع في بعض الجزئيات الخالية عن صورة النزاع، ولكن يشترط فيه أن يكون ثبوت الحكم للبعض يفيد ظن عموم الحكم، ولو كان البعض المستقرأ أقل على التحقيق، ومثاله: ما ذكره الشافعي وغيره من أن سن الحيض تسع سنين، وأن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر ونحو ذلك فقد صرح علماء الشافعية بأن مستند الشافعي في جميع ذلك هو الاستقراء، ومعلوم أن الشافعي لم يستقرئ من حال نساء العالم إلا النزر القليل بالنسبة لما لم يستقرئ، وقوله: يسمى لحوق الفرد: يعني أن الاستقراء الناقص (غير التام) يسميه الفقهاء إلحاق الفرد بالأغلب. انظر: نثر الورود للشيخ ﵀ (ص ٥٦٧).
(^٤) ما بين المعقوفين، من قوله ﵀: "وادعاء بعض متأخريهم ... "، إلى قوله: " ... كما ترى" = ساقط من (أ).
(^٥) مراجع هذه المسألة البحر المحيط للزركشي (١/ ٨٨ - ٩٠)، إحكام الفصول في أحكام الأصول (١/ ١٧١) الحدود في الأصول (ص ١٠١) كلاهما للباجي، التحبير شرح التحرير في أصول الفقه للمرداوي (١/ ٢٦٢)، شرح مختصر الروضة للطوفي (٢/ ١٥٩)، العدة في أصول الفقه لأبي يعلى (١/ ٨٩ - ٩٠)، التمهيد لأبي الخطاب (١/ ٤٨)، شرح الكوكب المنير (ص ٢٤ - ٢٦)، ذم الهوى (ص ٥)، الأذكياء (ص ١٠، ١١) كلاهما لابن الجوزي، أدب الدنيا والدين للماوردي (ص ٦)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (٣/ ٣٤)، الأشباه والنظائر لابن السبكي (٢/ ١٨)، شرح اللمع للشيرازي (١/ ١٥١)، المسودة لآل تيمية (٢/ ٩٧٧)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (٩/ ٣٠٣)، التبيان في أقسام القرآن لابن القيم (ص ٤٠٤ - ٤٠٥)، عمدة القاري للعيني (٣/ ٢٧٠)، أضواء البيان (٥/ ٧١٥)، العذب النمير (١/ ١٤٧ - ١٤٨)، المعجم الفلسفي (٢/ ٨٤ - ٨٨)، العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام (ص ٣٧)، عقلك مم يتركب وكيف يعمل لـ مصطفى هيكل (ص ١٢)، قصة الفلسفة لـ ويل ديورانت (ص ٧٧٣).
(^٦) ساقطة من (أ).
1 / 6