وفي تاريخ شاعر مشهور بالطموح مثلا لادعاء الحكم باسم الدين مرة وباسم الكتابة والأدب مرة أخرى أو مرات، ذلك الشاعر هو أبو الطيب المتنبي الذي نسب في بعض الروايات باسم أحمد بن الحسين بن الحسن ونشأ بين العلويين في الكوفة؛ فإنه ادعى النبوة أو المهدية في بادية السماوة، وبلغ من تفاقم دعوته أن خافه والي حمص من قبل الإخشيد فاعتقله ولم يطلقه إلا وقد عدل عن دعواه، ومن أحاديث المعجزات التي طولب بها كما جاء في «رسالة الغفران» أنهم قالوا له في بني عدي: «ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل. فمضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل وتحيل حتى وثب على ظهرها، فنفرت ساعة وتنكرت برهة ثم سكن نفارها ومشت مشي المسمحة
2
وورد بها الحلة وهو راكب عليها فعجبوا له كل العجب وصار ذلك من دلائله عندهم.»
قال أبو العلاء بعد ذلك: «وحدثت أيضا أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام فجرحته جرحا مفرطا، وأن أبا الطيب تفل عليها من ريقه وشد عليها غير منتظر لوقته، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياما وليالي، فبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون في أبي الطيب أعظم اعتقاد، ويقولون: إنه كمحيي الأموات. وحدث رجل كان أبو الطيب قد استخفى عنده في اللاذقية، أو في غيرها من السواحل، إنه أراد الانتقال من موضع إلى موضع فخرج بالليل ومعه ذلك الرجل، ولقيهما كلب ألح عليهما في النباح، ثم انصرف، فقال أبو الطيب لذلك الرجل وهو عائد: إنك ستجد ذلك الكلب قد مات، فلما عاد الرجل ألفى الأمر كما ذكر.»
وقد كانت دعوى النبوة أو المهدية في عنفوان شباب أبي الطيب، فلما أوفى على الشيخوخة كان قد عدل زمنا عن دعواه، ولم يعدل عن طلب الولاية من كافور الذي كان خصيا مملوكا فاستبد بالعرش وأصبح فيما زعم: «دون الله يعبد في مصر!»
قال داعي الدعاة يصف حال الناس في تلك الأزمنة من كتاب أرسله إلى أبي العلاء المعري: «إنني شققت بطن الأرض من أقصى دياري إلى مصر وشاهدت الناس بين رجلين: إما منتحلا لشريعة صبأ إليها ولهج بها إلى الحد الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلا طار أو جملا باض لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفر من يرى غير رأيه فيه ويسفهه ويلعنه، فالعقل عند من هذه سبيله في مهواة ومضيعة. أو منتحلا للعقل يقول: إنه حجة الله تعالى على عباده، مبطلا لجميع ما للناس فيه، مستخفا بأوضاع الشرائع، معترفا مع ذلك بوجوب المساعدة عليها وعظم المنفعة بمكانها، لكونها مقمعة للجاهلين، ولجاما على رءوس المجرمين المجازفين، لا على أنها ذخيرة للعقبى أو منجاة في الدار الأخرى. فلما رمت بي المرامي إلى ديار الشام ومصر سمعت عن الشيخ، وفقه الله، بفضل في الأدب والعلم قد اتفقت عليه الأقاويل ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس فيما يتعلق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين، فكل يذهب فيه مذهبا ويتبعه من تقاسيم الظنون سببا، وحضرت مجلسا جليلا أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثا وسمينا، فحفظته بالغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرا قد أسبل عليه من التقية سترا، وأمرا تميز به عن قوم يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ولما سمعت البيت:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
وثقت من خلدي فيما حدست عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لسانا يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقا، ويفتق من هذا العظيم رتقا، للسان صامت عنده كل ناطق، وناطق من ذروة جبل من العلم شاهق، فقصدته قصد موسى عليه السلام للطور، أقتبس منه نارا، وأحاول أن أرفع بالفخر منارا، بمعرفة ما تخلف عن معرفته المتخلفون واختلف في حقيقته المختلفون.»
وداعي الدعاة صاحب هذا الخطاب هو «أبو نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران» صاحب أكبر منصب من مناصب الدعوة في الدولة الفاطمية، كتب رسائله إلى حكيم المعرة يناقشه في تحريمه اللحوم على نفسه ويسائله عن البعث والقيامة، مستعظما على المتقولين أن يتهموا بإنكارهما حكيما كأبي العلاء، وقد استعار من اسمه «موسى بن أبي عمران» تفسيرا لوقوفه من رهين المحبسين موقف المقتبس من نار الطور.
صفحة غير معروفة