قال أنس: «والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب.»
ومن المرجح جدا أن الزهراء قد استشيرت في زواجها على عادة النبي عليه السلام في تزويج كل بنت من بناته كما جاء في مسند ابن حنبل، فيقول لها: فلان يذكرك، فإن سكتت أمضى الزواج، وإن نقرت الستر علم أنها تأباه، وفي زواج الزهراء قال لها: يا فاطمة! إن عليا يذكرك. فسكتت، وفي روايات أخرى أنه وجدها باكية، فذاك حيث قال رسول الله: «ما لك تبكين تبكين يا فاطمة! فوالله لقد أنكحتك أكثرهم علما، وأفضلهم حلما، وأولهم سلما.»
ولم يجمع كتاب السيرة على الوقت الذي تم فيه الزواج، ولكنهم قالوا: إنه كان بعد الهجرة، وبعد غزوة بدر. وأرجح الأقوال كما قدمنا أنها كانت في نحو الثامنة عشرة، وزوجها أكبر منها ببضع سنوات.
توخينا في اقتباس هذه الأخبار أن نرجح منها الأوسط الأمثل بين أقوال الرواة والمحدثين، فما من خبر من هذه الأخبار وصل إلينا في كتب السيرة على رواية واحدة، وقد يبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالزمن خمس سنوات أو أكثر، ويبلغ الفرق في بعض المسائل التي تتعلق بالأقوال والأعمال أن تتناقض مناقضة القبول والإباء والرضى والإنكار، فلا مناص من الأخذ بالأوسط الأمثل بين جميع هذه الأقوال.
ونحن نعني بالأوسط الأمثال أن يكون الترجيح قائما على المقابلة والموازنة والرجوع إلى حوادث الزمن وعادات أهله، وإلى الأحرى أن يصدر ممن أسند إليهم القول أو نسب إليهم العمل؛ فإن الأخبار إذا تساوت رجح بينها ما هو أشبه بالزمن وأهله وأصحاب السيرة فيه.
فمن المعقول مثلا أن يؤثر النبي عليا بفاطمة وهما ربيبان في بيئة واحدة، ومن المعقول أن يؤثر زواجها من علي على مشاركتها في بيت أبي بكر وعمر لزوجات الشيخين، ومن المعقول أن يتردد علي في خطبتها لفقره. ولا يخالف المعقول ولا المألوف أن يقدم بعد تردد، لشعوره بأنه مخصوص بها وأنه ينبغي عليه أن يقطع الشك باليقين ويعمل من عنده ما لا بد له من عمله ، ولا يخالف المعقول ولا المألوف كذلك أن يتأخر الزواج إلى ما بعد الهجرة؛ لأن حياة المسلمين في مكة - قبل الهجرة إلى المدينة - لم تكن حياة أمن ولا استقرار، ولم يكن من النادر أن يهاجر المسلمون بزوجاتهم إلى بلد بعيد كالحبشة كلما ملكوا وسائل الهجرة، فمن كان متزوجا قبل اشتداد العنت على المسلمين فلا حيلة له في الزواج، ومن لم يكن فليس أخلق به من إرجاء الزواج إلى حين.
ذلك كله هو المعقول المألوف، وهو الأوسط الأمثل إذا تساوت الأخبار ووجبت الموازنة والترجيح.
إلا أن التاريخ يكتب للاعتبار، ولا يقصد من الاعتبار به شيء أهم من تصحيح النظر إلى الحوادث والناس، واستخلاص الحقيقة عما يقع ولا يقع وعما يجوز ولا يجوز.
وها هنا محل لعبرتين كأهم العبر في كتابة التاريخ: كتابته في الأزمنة الغابرة، وكتابته في الزمن الحديث.
فأهم العبر التي تستخلص من تواريخ عصر البعثة المحمدية أن يقتصد ذوو الأحكام التاريخية في المسائل الكبرى، فلا يرتبوا حكما قاطعا في مسألة كبيرة على أرقام السنين وألفاظ الروايات، فما كان من الأخبار مجمعا عليه أو مقاربا للإجماع فهو جدير باتخاذ الأحكام الجازمة فيه، وما كان ميزان الحكم فيه كلمة تقابلها كلمات، أو فرضا تقابله فروض، أو رقما ويوما تقابله أرقام وأيام بل أعوام، فليس من القصد أن يعطى فوق معياره من الجزم واليقين، وبخاصة حين ينبني عليه اتهام أو قضاء لا يقوم في مسائل كل يوم بغير بينة تنفي كل شبهة وتبطل كل محال.
صفحة غير معروفة