وكان بطش العباسيين بأبناء علي من أسباب الكراهة لأصحاب الحكم وأسباب العطف على طلابه. فكان مع العباسيين من خدامهم وأعوانهم من يقدسون صاحب الدعوة العلوية ويمقتون أصحاب العروش في بغداد. ولولا عامل من عمال بني العباس في الرملة لاعتقل المهدي وقتل قبل أن يصل إلى المغرب حيث أقام الدولة. يقول جعفر الحاجب في سيرته: «وصلنا إلى الرملة فنزلنا بها عند عاملها، وكان مأخوذا عليه فلم يدر من السرور برؤية مولانا المهدي كيف يخدمه، ورفع المهدي فوق رأسه وقبل يديه ورجليه.»
ثم قال: إن النجاب وصل من دمشق إلى الرملة يصف له المهدي ويأمره بالبحث عنه والمهدي في داره، فانكب الرجل على رجلي المهدي يقبلهما ويبكي، فطمأنه المهدي قائلا: «طب نفسا وقر عينا، فوالذي نفسي بيده لا وصلوا إلي أبدا، ولنملكن أنا وولدي نواصي
1
بني العباس.»
وتبين غير مرة أن النجابين الإسماعيليين كانوا أسرع إلى تبليغ المهدي وأعوانه من النجابين الذين تعقبوه، وهم موعودون بالجزاء الجزيل على اعتقاله وتسليمه. واستخدم الحمام الزاجل في تبليغ الرسائل إلى المهدي وهو في طريقه كما جاء في روايات مختلفة، فإن صح هذا فهو دليل على ولاء عجيب وإيمان برسالة المهدي على طول طريقه من الشام إلى المغرب، وإن لم يصح فقد صح ما هو أغرب منه وهو نجاة المهدي من عشرات الولاة والعمال في الشام ومصر والمغرب، بل نجاته بعد دخوله الحبس حيث اعتقل قبل مصيره إلى المغرب الأقصى.
وربما كان ولاء عامل تابع للأمراء أقل في باب العجب من ولاء أمير قائم على عرش دولة كالدولة المصرية، لا تعترف لخلفاء بغداد من بني العباس بغير الدعاء على المنبر في يوم الجمعة، فقد روي عن كافور الإخشيدي أن الشريف أبا جعفر مسلم بن عبيد الله ناوله سوطه - وقد سقط منه - فاستعظم كافور هذا التواضع منه ومال على يده يقبلها وهو يقول: «نعيت إلى نفسي، بعد أن ناولني ولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سوطي غاية يتشرف لها.»
هذه هي أشراط الساعة وعلامات الزمان التي وافتها دعوة الدعاة الفاطميين على قدر، ولو لم تقترن دعوة الدعاة بهذه الأشراط التي تجمعت من فعل الحوادث التاريخية والبواعث النفسية لما تمكن الدعاة وحدهم من إقامة الدولة ولا تمكنوا من الإقناع وهو أهم أعمال الدعاة. •••
ونتابع الأمر إلى غاياته فنقول: إن الدعوة والحوادث التاريخية والبواعث النفسية كلها كانت خليقة أن تذهب سدى بغير نتيجة لو لم يقيض للدولة بناة وموطدون من أصحاب السلطان فيها، يأخذون بزمام الأمور ويحسنون قيادتها على نهجها القويم إلى أن تثبت دعائم الملك وتصمد البنية الجديدة لغواشي الزمن، وهي بعد التأسيس عرضة لطوارئ الهدم والتوهين.
صفحة غير معروفة