وحوادث هذه المدة ذات عقد يتعذر على المرء أن يحلها؛ فإنه قد يستبين خيطا منها في ديوان من الدواوين، وبضعة خيوط أخرى في ديوان سواه، ولكن تلك الخيوط لا صلة بينها؛ ولذلك يصعب على الإنسان مهما أوتي من الصبر والأناة أن يسويها ويجمع بينها. وعلى كل حال فإنا نستخلص أنه في سنة 631 ذهب الإمبراطور إلى «هيرابولس»، وبدأ فيها تحقيق ما كان يرجو إنفاذه من توحيد الكنيسة، واختار «أثناسيوس» رئيسا لأساقفة «أنطاكية»، وجعل «قيرس» رئيسا لأساقفة الإسكندرية. غير أنه أخطأ خطأ كبيرا في اختيار «قيرس» هذا، وسنصف بعد قليل سيره إلى مصر، ونرى أي نكبة حلت في تلك البلاد بما كان الإمبراطور يسعى لتحقيقه من الآمال؛ فإنه لقي مقاومة ومخالفة من كل جانب، فخالفه الزعيم الملكاني «صفرونيوس» وشيعته، وخالفه كذلك كل القبط قسوسهم وعامتهم، وسنرى بعد ذلك كيف انقلب «قيرس» فقلب للقبط ظهر المجن، وحارب مذهبهم؛ إذ رأى أنه لم يستطع أن يدخلهم بالحسنى في المذهب المونوفيسي، وشرع يحملهم على الخروج من مذهبهم جبرا واضطرارا بالعسف والاضطهاد.
وكان الأمر في بلاد الشام على ما كان عليه في مصر؛ إذ أخفق سعي الإمبراطور هناك، فأراد حمل الناس على ما أراد بالاضطهاد، فكان «قيرس» بعسفه واضطهاده يهدم ما بناه هرقل بحروبه وفتوحه، ويمهد السبيل للإسلام في مصر، على حين كان الاضطهاد في الشام يمهد السبيل له هناك . غير أن الأمر في بلاد الشام لم يبلغ من الشدة ما بلغه في مصر؛ فقد كان «أثناسيوس» صاحب كياسة وأناة، وكان «قيرس» خلوا منهما، وكان لوجود الإمبراطور نفسه في الشام أثر في تخفيف حدة الخلاف ومنع الخروج،
4 ( ⋆ ) ولكن لم يمض كبير زمن حتى ظهر الضرر المحقق الناشئ من سعي الإمبراطور في أمر الكنيسة. وقد توسل الحبر القدير «صفرونيوس» إلى «قيرس» توسلا حارا ليعدل عن عسفه، فلم يجده ذلك شيئا، فسافر إلى القسطنطينية لكي يخاطب البطريق «سرجيوس» في ذلك الشأن، وكان «سرجيوس» من خير من ولي أمر الكنيسة الشرقية وأوضحهم عقلا، ولكنه كان صاحب المذهب المونوثيلي الذي أراد به التقريب بين المذاهب، ولم يكن ليستطيع إنكار ذلك المذهب، وحاول أن يقنع «صفرونيوس» أو يستميله بكل ما أوتي من قوة في الحجة، وبلاغة في الخطاب، وخلابة في الخلق، ولكنه لم يفلح، وعاد «صفرونيوس» إلى الشام آسفا كئيبا.
ولعله ذهب بعد ذلك إلى «هرقل» ليبذل معه من الجهد مثلما بذل مع «قيرس» و«سرجيوس»، ولكن لا يذكر التاريخ حدوث ذلك اللقاء بينهما. أما نحن فنرى أنه لا بد أن يكون قد حدث ذلك اللقاء؛ فهو يتفق مع سائر ما نعرف من الحوادث، وبغير حدوثه لا يمكن أن نفسر العلة التي من أجلها اختار «هرقل» «صفرونيوس» ليكون كبير أساقفة «بيت المقدس»، وقد بقي ذلك المنصب شاغرا منذ مات «مودستوس» في سفره إلى الشمال مع الإمبراطور. ومهما يكن من الأمر فإنه من المحقق أن «صفرونيوس» لم يخفف من وطأة عداوته للمذهب المحدث مذهب الوفاق، وكان من أول ما قام به بعد ولايته أنه جمع رجال الكنيسة، وقال فيهم كلمة طعن فيها بدعة الإمبراطور، وندد بها في غير حيطة ولا هوادة، وحكم بالخروج على البطارقة الذين اتبعوها؛
5
لأن «صفرونيوس» لما قبل أن يلي إمرة الدين في بيت المقدس كان يظن من غير شك أن الإمبراطور سيعدل عن بدعة «المذهب المونوثيلي»، ويعود إلى مذهب السنة «الأرثوذكسي»، في حين أن الإمبراطور كان يظن أنه سيستميل «صفرونيوس» باختياره للولاية الدينية كما استمال «أثناسيوس» من قبل. ولعل هذه كانت أشأم زلة زلها «هرقل» لا تفوقها إلا زلته الأولى وهي اختيار «قيرس»، وليس من المبالغة أن نقول إنها تكاد تكون السبب في ضياع فلسطين، كما كان اختيار «قيرس» سببا في ضياع مصر.
إنه من الممكن أن نلتمس لهرقل العذر في زلاته هذه إذا نحن ذكرنا أنه إنما اقتحمها اقتحاما وهو يقصد إلى غاية سامية ويدفعه باعث نبيل، ولكن على أي حال قد أدى الأمر في مصر والشام إلى أن الإمبراطور عندما أخفق في سعيه عمد إلى التضييق على معارضيه تضييقا مرا، ولم تبق إلا خطورة واحدة بين هذا التضييق وبين الاضطهاد، ولم تكن نفسه الوثابة لتتردد في أمرها وقد جرح الفشل عزتها فأثارها. قال أبو الفرج: «ولما شكا الناس إلى هرقل لم يجب جوابا؛ ولهذا أنجانا الله المنتقم من الروم على يد العرب، فعظمت نعمته لدينا أن أخرجنا من ظلم الروم، وخلصنا من كراهتهم الشديدة وعداوتهم المرة.
6
على أن كنائسنا لم ترجع إلينا؛ لأن العرب أبقوا كل طائفة من المسيحيين على ما كان في يدها عند فتحهم للبلاد.» وإنه لمن المحزن أن يقرأ الإنسان مثل هذا الترحيب من قوم مسيحيين بحكم العرب، وزعمهم أن ذلك كان تخليصا لهم ساقه الله إليهم ليخرجهم به من حكم إخوان لهم في المسيحية، ولكن ذلك يظهر بجلاء قاطع أن سعي الإمبراطور في توحيد طوائف الكنيسة كان سعيا باطلا غير ممكن، وأنه لا شك جر عليه الدمار والوبال.
بقي علينا أن نذكر الزلة الثالثة الكبرى، وقد سبق أن أشرنا إليها، وهي مقتلة اليهود، وكانت تلك أولى زلاته من الوجهة التاريخية، وكانت كذلك أول ما جنى منه الثمر الوبيل؛ فإنه بعد احتفال إعلاء الصليب في بيت المقدس بزمن يسير أمر بنفي اليهود أو قتلهم، فأتى بعضهم نبأ ذلك، فهرب من استطاع إلى الصحراء فيما بعد نهر الأردن، وتربصوا هناك الدوائر بأعدائهم، وكانت قلوبهم تتقد بنار الغيظ وطلب الثأر وهم على تربصهم هذا، حتى لاحت لهم أعلام الإسلام وهي طالعة، فرحبوا بهذه الجموع التي جاءت تطلب قتال الدولة الرومانية.
صفحة غير معروفة