4
ولا يرد ذكر لإخضاع حصن بابليون بقرب ممفيس، ولنا أن نقول إنه كان غير محصن، ولم تكن فيه حاميات من الجنود تدفع عنه - ولو أن الفرس كانوا بلا شك أهل السبق والتبريز في فنون الحصار وحروبه - وكذلك نعرف منهم أن جيش الفرس سار في البر بعد فتح «ممفيس» يساعده أسطول عظيم في نهر النيل، وسار متبعا الشاطئ الشرقي من الفرع الأكبر الغربي، ومر بمدينة «نقيوس» في طريقه إلى الإسكندرية.
5
وأما فتح الإسكندرية فقد بقي وصف شائق له،
6
يقول كاتبه إن تلك المدينة العظمى «بناها الإسكندر كما أوصاه أستاذه أرسطو، فجعل لها سورا، وأجرى وراء الأسوار مياه النيل، وجعل لها أبوابا قوية»، وقد ظل الحصار زمنا ولم يستطع الفرس أن يدخلوا ذلك المعقل المنيع مع ما كانوا عليه من بصر بأمور الحصار. والحق أن حصونها كانت قوية لا يكاد عدو يجد فيها مطمعا. وكان ذلك الحصار في عام 617؛ أي بعد آخر غزوة غزاها الفرس مصر بنحو 117 عاما. وقد استطاع الفرس في تلك الغزوة السابقة أن يفتحوا مصر السفلى، وغمر أتيهم أرضها جميعا، ولكنه ارتد عاجزا عند أسوار الإسكندرية.
7
وقد قامت هذه الأسوار نفسها منذ ثماني حجج ماثلة بين يدي جيوش «بنوسوس»، فارتدت عنها تلك الكتائب المستميتة وهي خاسئة، كأنما هي أمواج البحر ترتطم بصخور الساحل. وقد أراد الله أن تقوم تلك الأسوار مرة أخرى بعد ربع قرن وهي راسية قوية تحاد جيوش العرب حتى استطالت بها مدة الحصار. فمن الواضح على ذلك أن تلك الأسوار كانت في الوقت الذي نصفه هنا لا تزال على عهدها خطا عظيما من الحصون والآطام ذات بأس ومنعة، ولو أتيح لها جند عاهدوا أنفسهم على الدفاع يدا واحدة لكان في استطاعتها أن تثبت حتى يكل المحاصرون وتنفد قوتهم، ولاستطاع جندها عند ذلك أن يسحقوهم وقد أنهكت قواهم، أو أن يرغموهم على رفع الحصار وترك المدينة، ولا سيما وقد كان البحر من ورائها تأتي منه الأمداد تترى إليها؛ إذ كان الروم لا يزالون سادة البحر إلى ذلك الحين.
ولكن أنى لها ذلك وقد بعد عهدها باجتماع الشمل وتوحيد الكلمة، وصار أهلها أخلاطا مضطربة من قبط وروم وسوريين ويهود، وجماعة من طلاب العلم، وآخرين من اللاجئين أتوا إليها من كل أنحاء الدولة؟ فكان القبط والسوريون يكرهون الروم، وكان اليهود يمقتون أتباع المسيح مقتا لا يسله من قلوبهم الخطر الداهم عليهم جميعا، وكانوا جميعا لا يدركون أن الواجب عليهم أن يجتمعوا من كل جنس أو طبقة أو مذهب يربطهم رباط الاشتراك في الوطن، وهو الوسيلة لا وسيلة غيرها إلى ضم شملهم. ما كانوا ليدركوا معنى لهذا، بل كانوا يسخرون منه ؛ فلم يكن عجيبا مع هذا أن نرى الخيانة تعمل على وقوع المدينة في يد أعدائها.
وكان الفرس في أثناء مدة الحصار يوقعون بما حول المدينة من الريف، ولا سيما بما فيه من الأديرة؛ يشفون بذلك ما في نفوسهم من الغيظ لفشلهم. وقد جاء في الأخبار أنه كان بأرباض الإسكندرية نحو ستمائة من الأديرة لها آطام على شكل أبراج الحمام،
صفحة غير معروفة