فمؤلف جليل فيه درس عميق وبحث مستفيض، وله قيمة لا ثلمة فيها في الموضوع الذي يعالجه، وقد كان «كاترمير» مؤلفا اشتهر بسعة علمه ودقة حكمه، ومؤلفاته لا تزال على قيمتها العظيمة لم تفقد شيئا يذكر في نظر الباحثين في تاريخ مصر. على أن مؤلفات أهل الغرب لا يجوز الاعتماد عليها وحدها، حتى وإن كانت خيرا مما هي وأتم؛ فإن من أراد أن يبحث بحثا جديدا من هذا النوع، وجب عليه أن يعتمد على المراجع الأصلية. أما تلك المراجع، فاليوناني منها مخيب للظن والأمل؛ فمنها كتاب تيوفانز، وقد كتبه المؤلف في سنة 813، ولكنه أساء كل الإساءة في فهم أخبار الفتح العربي، فتاريخه المجمل المقتضب يخلط بين الفتح الأول والفتح الثاني للإسكندرية، مع أنه لا يذكر أحد الفتحين، وهو يخترع معاهدة عقدت مع العرب قبل دخولهم لمصر غازين، وليس في كتابه تناسب ولا تناسق، وهو السبب في كثير من التاريخ المختلط المكذوب. ومن كتاب اليونان «نيقفوروس»، وهو خير من السابق شيئا ما، ولكن كتابه لسوء الحظ ليس به شيء من أخبار ما بين سنتي 641-668، وما بقي بعد ذلك لا يزيد على أنه «ثبت بأسماء القواد المنهزمين». وهذان الكاتبان كلاهما يورد نتفا مفردة غير متصلة، ويختلف أحدهما عن الآخر، ويذكر كلاهما من تواريخ السنين ما لا يستطاع قبوله.
وأما حنا مسكوس وبطارقة بيت المقدس زكريا وصفرونيوس، فقد كانوا كتابا دينيين في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، ونستطيع أن نلمح فيما كتبوه بعض إشارات إلى حوادث سبقت الفتح. وقد ترك «ليونتيوس» النيابولي في قبرص ترجمة لحياة «حنا الرحوم» بطريق الإسكندرية، وفيها فائدة لتاريخ مدة الفتح الفارسي، وقد نشرها جلزر نشرة بديعة متقنة. وأما كتاب
Chron. Paschale
أو
Alexandrinum ، فأغلب الظن أنه كتب في أوائل القرن السابع في مصر، ولكنه لا يبلغ عهد الفتح، في حين أن الكتاب اللاتيني
Chronicon Orientale
الذي ألفه
Echellensis ، مؤرخ في سنة 1238 بعد الميلاد.
وأما المراجع الأرمنية، فإنها تكاد تكون في نظرنا لا فائدة فيها لتاريخ الفتح، مع أنها تذكر بالتفصيل العظيم حروب الدولة الرومانية مع الفرس، وتصف ضياع الشام؛ فالأسقف سبيوس له كتاب ظهر باللغة الروسية، وقد حرره المستر «كونيبير» مع ترجمة إنجليزية، ولكنه لم يطبع بعد، وفيه أخبار توضح ذلك العصر، ولكن ليس فيها ما يتعلق بمصر، أو ما أقل ما يتعلق بمصر فيها. وميخائيل السوري يظهر أنه ينقل عن تيوفانز، وقد نشر كتابه «لانجلوا». وأما النسخة التي حررها «شابوت» فإنها لم تتم بعد، وكتاب «اليشع النصيبي» توجد منه نسخة مخطوطة في المتحف البريطاني، ولكن جزءا منه خاصا بالفتح العربي قد نشر في «بتجن».
فلنأت الآن إلى الكتاب المصريين، ويجب أن نجعل أولهم وعلى رأسهم حنا النقيوسي، وهو أسقف قبطي كتب في مصر في أواخر القرن السابع، ولعله ولد حوالي زمن الفتح، وكتابه عبارة عن مؤلف في تاريخ العالم، وقد كتب جزء منه في الأصل باللغة القبطية، وجزء آخر باليونانية، ويظهر أنه قد نقل إلى العربية في زمن متقدم جدا، وعلى أساس النسخة العربية وجدت ترجمة أثيوبية، وهي النسخة الوحيدة الباقية من ديوان حنا، وقد ترجمها زوتنبرج وحررها. وأخبار هذا الكتاب ذات قيمة عظمى؛ إذ كان نصها واضحا غير غامض، ولم يتطرق إليه الفساد، ولكن ذلك الكتاب لا يذكر به شيء لسوء الحظ ما بين تولية هرقل وبلوغ العرب حصن بابليون؛ وعلى ذلك فكل مدة الفتح الفارسي وعودة مصر إلى الروم قد ضاعت منه، وكذلك قد اختلطت أخبار آخر مدة الفتح العربي اختلاطا عظيما؛ إذ هي مقلوبة رأسا على عقب، لا يستطاع إقامتها، ولا يكاد النقد يعيد إليها سياقها. على أنه قد ثبتت منه بعض حقائق من الأمهات الكبرى، ولا بد لنا من اعتبارها معالم ثابتة لا تدافع، ولا يختلف في صحتها، مع أنها تخالف ما جاء في الأخبار العربية المتأخرة عنها؛ فهي على ذلك أسس متينة لمن أراد أن يبحث في تاريخ هذا العصر. والحق أنه لم يكن في الإمكان أن يكتب تاريخ الفتح العربي لمصر لولا أن عثرت البعثة البريطانية إلى بلاد الحبشة على نسخة مخطوطة من كتاب حنا، وإنا لنرجو أن يعثر يوما ما على نسخة قبطية أو عربية من كتاب حنا النقيوسي تكون سابقة للنسخة الأثيوبية التي وجدت.
صفحة غير معروفة