115

فتح العرب لمصر

تصانيف

23

وإنه لمن سوء الحظ أن قول الأسقف هنا ليس بالواضح البين، غير أنا إذا قرنا ذلك القول مع سائر ما جاء في ديوانه رأينا أن معناه لا يزيد على أن الناس قاموا بتلك المساعدة إذ أمروا بها؛ أي إنها لم تكن مساعدة الراغب المختار، بل عمل المجبر المضطر. وفي الحق أنا لو أمعنا النظر لرأينا في قول الأسقف نفسه ما يدل على ذلك دلالة واضحة؛ فإنه بعد أن قال إن العرب فتحوا المدينتين الكبيريين «أثريب» و«منوف»، وملكوا ريفهما، وبسطوا سلطانهم على إقليم مصر كله، قال: «إنهم لم يكفهم هذا، بل أمر عمرو أن يؤتى بالحكام من الروم مجموعة أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، ثم أخذ من الناس أموالا عظيمة، وضاعف عليهم الجزية، وأمرهم أن يأتوا له بالأعلاف لخيله، وظلمهم ظلما كثيرا.» وليس من العجيب أنه بمثل هذه الشدة قضى على كل مقاومة، وجعل الناس لا يعصون له أمرا، ولكنا لا نجد كلمة واحدة تدل على أنه قد كان بين أهل مصر من كان لمجيء المسلمين في قلوبهم إلا وقع الخوف والرعب.

على أن مدينة «نقيوس » - وكانت على الفرع الغربي للنيل - بقيت بنجوة من العرب بعد أن أخذوا «أثريب» و«منوف»؛ وذلك لأنها كانت ذات حصون قوية وأسوار منيعة، فما كانت لتؤخذ حتى يحاصرها العرب حصارا تاما، ولم يستطع العرب ذلك عندئذ؛ إذ كانوا لا يملكون العدة للحصار ولا يتسع لهم الوقت له؛ وعلى ذلك بقيت «نقيوس» كأنها حلقة تصل من كانوا في حصن «بابليون» بمن كانوا في الإسكندرية، غير أن كبار الروم الذين كانوا فيها لم يستطيعوا البقاء بها عندما جاءتهم أنباء فتوح العرب وفوزهم، فهاجروا إلى العاصمة، ولم يغادروا في المدينة إلا «دومنتيانوس» في قلة من الناس للدفاع عنها، وبعثوا إلى «داريس» في سمنود يأمرونه أن يحفظ ما عنده من البلاد التي بين فرعي النيل، وعند ذلك زاد الخوف وذعر الناس، وغلب الرعب على كل بلاد مصر، فأخذ الخلق يفدون أفواجا من كل حدب إلى الإسكندرية تاركين أرضهم وبيوتهم وما فيها من زرع وضرع ومتاع؛ وبذلك خرج أهل مصر من عهدة المقوقس (قيرس) واضطهاده الذي عصف بهم عشر سنين إلى عهد آخر من الخوف والفزع.

ولكن عمرا لم يكن عند ذلك ليستطيع أن يسير إلى الشمال في أثر تلك الأفواج الهاربة؛ فإن النيل كان آخذا في مده يعلو به الماء علوا سريعا في أواخر شهر أغسطس، فأصبحت البلاد لا يمكن السير فيها، وكان فوق ذلك لا يريد أن يخلف وراءه ذلك الحصن العظيم حصن «بابليون» بغير ردء من جنوده يدرأ عنه، وإذا هو شاء أن يجعل من جنوده ردءا كان لا بد له أن يخلف جانبا عظيما من جيشه؛ فلا يبقى له بعد ذلك من الناس من يقدر بهم على فتح الإسكندرية، فلم يكن له مفر من أن يعمد بعد ذلك إلى فتح حصن «بابليون».

الفصل السابع عشر

حصن بابليون

بقي من حصن بابليون إلى نحو أوائل القرن العشرين ما يدل على ما كانت عليه هيئته وعظمة خطره، وكان الفضل للقبط في حفظ تلك البقية؛ إذ اجتمعت لهم كنائس عدة فيه منذ أول عهد المسيحية ؛ لأنهم وجدوا وراء أسواره منعة لهم في أيام المحنة والشدة، وكانت كل أسوار الحصن للقبط إلا ما كان منها للملكانيين، وهو موضع كنيسة «مار جرجس»، وإلا ما كان منها لليهود وهو موضع بيعتهم. والظاهر أن المسلمين لم يحفلوا بالمحافظة على ذلك الأثر مع ما كان له من الخطر في أيام فتحهم ومع كثرة ما كتبه مؤرخوهم عنه.

ولكنه خرب تخريبا يرثى له منذ احتلال الإنجليز لمصر؛ إذ شعر أهله عند ذلك بالاطمئنان والأمن؛ فقد أصبح الأمر مستقرا لا حاجة معه إلى الأسوار المنيعة، وصار القبط واليونان واليهود وكأنهم يتبارون في هدم أسواره كلما بدا لهم فتح باب في ناحية أو إقامة بناء في جانب منه. فإذا نحن قلنا إن السنين الثمانية عشرة الأخيرة قد شهدت من تهديمه أكثر مما شهدته القرون الثمانية عشرة التي قبلها، لم يكن في قولنا شيء من المبالغة.

فلما أن انتهى الأمر إلى ذلك، وحدث الضرر الذي كان يخشى؛ تدخلت الحكومة وبسطت حمايتها على ما بقي منه، ولكن ما أقل ما قد بقي منه!

وموضع ذلك القصر المتهدم فيما يسمى «مصر القديمة»،

صفحة غير معروفة