54

فتح الأندلس

تصانيف

فضحك رودريك وقطع كلامها قائلا: «أظنك تتوقعين قصف الرعد ووميض البرق جوابا على كلامك كالمرة الماضية. لسنا في عصر المعجزات.»

خطوات غريبة

وفيما هو يريد إتمام كلامه، وقد أشهر الخنجر بيمينه كأنه يهم بأن يطعنها به، سمع وقع أقدام غريبة في دهليز القصر، فأنصت فسمع تلك الخطوات تقترب من الغرفة وهي تسرع، فخفق قلبه واقشعر بدنه، وعاد إليه الإحساس الديني الذي ربي فيه؛ فخيل له أن الله استجاب لدعاء فلورندا، فأرسل بعض ملائكته لإنقاذها، لأنه يعتقد أن البشر لا يستطيعون الدخول إلى قصره في تلك الساعة. وإذا دخلوه فلا يجرؤ أحد على الوصول إلى هذه الغرفة والأبواب موصدة والأوامر صارمة.

قضى رودريك وفلورندا لحظات قليلة في حيرة، وهما واقفان وأبصارهما شاخصة نحو الباب ينتظران ما يكون، وفلورندا ترتعش تخشعا وبغتة. وأما رودريك فإنه رد الخنجر إلى مكانه، ومشى إلى الباب وهو لا يزال يسمع خطوات القادم تقترب. وقبل الوصول إلى الباب سمع قارعا يقرعه قرعا عنيفا ارتجت له جوانب القصر وارتعدت فرائص رودريك، ثم أسرع إلى فتحه. ولا تسل عن دهشته واضطرابه لما رأى أوباس داخلا وهو على ما يعرفه فيه من الهيبة والرزانة ورباطة الجأش. دخل والماء يقطر من أردانه.

أما فلورندا فتوهمت لما رأته أنه ملاك يلبس ثوب أوباس وظلت واقفة وقد ملكت البغتة كل جوارحها حتى جف ريقها في حلقها وأمسكت أنفاسها.

أما رودريك فلم يسعه عند رؤية أوباس إلا إظهار الدهشة من جرأته إلى هذا الحد، فقال له: «ما الذي جاء بك إلى هنا في هذه الساعة؟ وكيف دخلت هذا القصر بغير استئذان؟»

فأجابه أوباس وهو لا يبالي، كأنه يخاطب غلاما: «أما الذي جاء بي فهو أمر يهم المملكة سأعرضه عليكم، وأما دخولي بلا استئذان فجلالة الملك يعلم أن أمثالنا لا يستأذنون في الدخول على الملوك أو مخاطبتهم، وهم يخاطبون الله بلا استئذان.»

ففهم رودريك أنه يعرض بسلطة الأكليروس وبخاصة الأساقفة فإنهم هم الذين أجلسوه على الكرسي. ولكن أوباس لم يكن منهم للأسباب التي قدمناها. فساءه ذلك التعريض، ولكنه كان يشعر أنه ارتكب ذنبا عظيما، والمذنب يغلب عليه الضعف والارتباك ولو كان ملكا ولا سيما بين يدي رجل مهيب مثل أوباس، فعمد رودريك إلى تغطية ذنبه بالمغالطة وقد عول على أن يصرف أوباس ثم يعود إلى فلورندا فقال له: «انتظرني في الدار العامة ريثما آتيك.»

قال أوباس: «لو كان الأمر الذي جئت من أجله يحتمل الانتظار ما جئتك في هذا الليل تحت سيول الأمطار.» قال ذلك ومد يده نحو فلورندا وهو يظهر أنه يخاطب الملك وقال: «وإذا فتحت النافذة المطلة على النهر تحققت الأمر الذي قلته لك، ورأيت الأمطار بل الثلوج تتساقط، فلو لم يكن مجيئي لأمر ذي بال ما عكرت على الملك راحته. إني لا أخرج من هذا المكان إلا معك.»

وكانت فلورندا كلها آذان وعيون لما يقوله أوباس أو يشير إليه، فلما سمعت ما ذكره عن النافذة أدركت أنه يشير إلى الموعد المضروب لإنقاذها ففرحت.

صفحة غير معروفة