51

فتح الأندلس

تصانيف

فاطمأن بال فلورندا لهذه العبارة، ومشت كالشاة وهي تساق إلى الذبح. مشت وهي تقدم قدما وتؤخر أخرى حتى دخلت تلك الغرفة، وكان رودريك جالسا في صدرها جلوس من لا يهمه النهوض، ورأت في وجهه من دلائل الغضب ما لم تره في المرة الماضية، وقد احمرت عيناه واربد وجهه من أثر الخمر، وتتابعت أنفاسه واشتدت حتى أصبح شخيرا؛ فظنت فلورندا لأول وهلة أنها ترى هذه الملامح في وجهه بسبب نور المصباح وهو ضئيل، ولكن حين وقعت عيناها عليه أسرع قلبها بالخفقان، ولكنها استعانت بالله وتجلدت وتقدمت حتى وقفت على بضعة أذرع منه وأطرقت. وكانت قد ضفرت شعرها ومشطته وغيرت ثوبها تأهبا للسفر؛ فرأى رودريك فيها ما زاد شغفه بها، وتضاعف ذلك الشغف حين نبه الخمر غرائزه، فخاطبها وهو لا يزال جالسا وقد مد ساقيه وبسط ذراعيه على الوسائد في الجانبين، فقال: «هل حدثتك نفسك بشيء جديد؟»

فظلت ساكتة، ولكنها بالغت في الإطراق.

فأعاد السؤال وقد توكأ على ركبتيه كأنه يتحفز للنهوض فقال: «أجيبي يا فلورندا ... يظهر أنك أدركت السعادة التي أدعوك إليها، وبخاصة إذا علمت أني أنقذتك من يدي ذلك الغلام الذي كان يغريك على حبه وهو لا يحبك ولا يستحق قلبك.»

فلما سمعت ذلك خافت أن يكون قد دبر شرا لألفونس، فرفعت بصرها إليه وتفرست فيه كأنها تستكشف مبلغ ظنها، ولكنها ردت بصرها عنه لأنها توسمت في عينيه معنى ارتعدت له فرائصها. رأت شيئا لو سئلت عنه ما استطاعت أن تسميه بغير «الشر»، ولكنها عادت إلى الإطراق وفي خاطرها أن تسمع منه ما يظهر الحقيقة، فإذا هو قد وقف بسرعة وتقدم نحوها، وقال وهو يلاعب شاربه بين الإبهام والسبابة ثم يسرح لحيته بأصابعه: «لماذا لا تجيبينني كأنك تخجلين من الندم بين يدي الملك. لقد سامحتك على ما مضى.» قال ذلك ويمناه مرفوعة كأنه يهم أن يلقيها على كتفها تحببا.

أما فلورندا فلما رأته يدنو منها تقهقرت ورفعت ذراعيها تتحاماه، ونفرت منه كأنه ذئب كاسر يهم بافتراسها؛ فتراجع رودريك وأظهر الاستغراب وهو يقول: «ما بالك تنفرين كأنك تخافين الأذى، وأنا إنما أتقرب إليك وأبغي رضاك؟!»

وكانت فلورندا لا تزال في ريب من أمر ألفونس، فأرادت أن تتحقق من ظنها. وكانت الأمطار قد اشتد تساقطها، واختلطت أصواتها بأصوات المياه المنحدرة من الميازيب وهبوب العواصف وقصف الرعد، وفلورندا في غفلة عن كل ذلك لشدة ما قام في نفسها من الخوف، على أنها لما أرادت أن تخاطبه تنبهت، فوجدت كل ذلك يحول بين صوتها المنخفض وأذن رودريك، فقالت بصوت عال لكنه مرتعش: «قد قلت لمولاي الملك إن هذا الموقف ليس موقفي، وإن الله قد جعل نصيبي سواه ...»

فقال لها: «كأنك لم تفهمي كلامي، قلت لك إن الغلام الذي تقولين عنه إنه نصيبك قد مضى ولا سبيل إليه ...»

فلما سمعت قوله توهمت أنه قتله، فصاحت في ذعر وهي ترتعش وقد أحست كأن شخصا صب ماء يغلي على جسمها: «ماذا تقول؟ ماذا فعلت بألفونس؟ ماذا؟ ماذا؟ هل قتلته؟»

الاستنجاد

فلما رأى رودريك ما أصابها خاف أن يقضي عليها بغتة وهو يريد استبقاءها لنفسه ولو ساعة، فقال: «ما هذه البغتة يا فلورندا؟ ماذا فعلت بألفونس؟ لا، لم أقتله ولكنه بين يدي وحياته طوع إرادتي إذا شئت قتلته بكلمة واحدة وأنا لا أخطو لذلك إلا خطوة واحدة. يظهر أنك لا تزالين تجهلين من هو الذي يخاطبك ومن هو ذاك الذي تقولين إنه نصيبك. نعم، إني لم أقتله، بل اكتفيت بإبعاده، ولكن إذا بقيت على إصرارك فإني أقتله، وإذا ظللت على غيك بعد قتله أقتلك أنت أيضا، وأنا الآن لا أسترضيك ولا أستعطفك بعد ما رأيته من وقاحتك، واعلمي أن هذه الساعة هي الحد الفاصل بين تمنعك وبين ما أريد.» قال ذلك بصوت عال ومشى مسرعا إلى باب الغرفة وأغلقه ثم رجع وهو يقول: «فاختاري إذن الباب الذي تريدينه واخرجي منه.» ثم ألقى بنفسه على المقعد وهو يلهث من الغضب كأنه ثور يخور، وقد زادت عيناه احمرارا وأوداجه انتفاخا.

صفحة غير معروفة