فلما سمعت فلورندا ذلك أسرعت بالجواب قبل أن يتم ألفونس كلامه، فقالت: «لما أحببتك يا منيتي إنما أحببت ألفونس، ولم أحب ولي عهد مملكة القوط. إن الحب لا ينظر إلى الرتب ولا المناصب، والقلوب يا ألفونس تتعاقد وتتحد وهي لا تبصر، ولا تقيس، ولا تكيل، ولا تزن، وهي لا تتعارف بالتوصيات، ولا تعرف المجاملات، ولا تفرق بين الحقوق والواجبات. القلب يا ألفونس لا يرى علامات الشرف ولا يهوى التيجان ولا يخاف الصولجان، القلب يا حبيبي لا يهوى إلا القلب.»
قالت ذلك وقد توردت وجنتاها وبان الاهتمام على محياها، وأطرقت وسكتت وفي ملامح فمها أنها لم تتم الكلام بعد، فلم يشأ ألفونس أن يقطع سلسلة أفكارها، فظل صامتا وهو ينظر إليها نظر المستزيد، ولسان حاله يقول: «أتمي كلامك.» فلما رأته يتوقع سماع تتمة كلامها، قالت: «على أني آسفة لخروج هذا الأمر من يدك، لا لأني أحب أن أكون ملكة، ولكن ...» ثم غلب عليها الحياء والغضب معا؛ فتزايد احمرار وجهها وقد تقطبت ملامحها، والتفتت إلى القصر كأنها تخشى رقيبا، وسكتت. فانشغل بال ألفونس بذلك السكوت، وأدرك بعض ما تريد، ولكنه تجاهل وقال لها: «ولكن ماذا يا فلورندا يا حبيبتي؟ قولي، أفصحي!»
قالت فلورندا وهي تخفض صوتها: «ولكنني لولا هذا الانقلاب ما كنت أقاسي هذه المتاعب، وما كنت أحس بأني بين أنياب الأسد، وملاكي الحارس بعيد عني.» ثم خنقتها العبرات، ولكنها استمرت في الكلام فقالت: «لقد كنت أشعر بهدوء البال وراحته لو ظل غيطشة على كرسي الملك أو لو أنه عهد به إليك، فما كان لهذا المختلس سبيل إلى إقلاق راحتي.»
فقطع ألفونس كلامها، وقد ظهرت عليه البغتة واتقدت الغيرة في قلبه، وقال: «بماذا أقلق راحتك؟ هل خاطبك في شيء؟ هل بدا لك منه سوء؟ أخبريني، قولي!»
قالت فلورندا: «كلا لم يبد منه شيء، ولكنني لا أحسب نفسي في مأمن وبخاصة بعد أن نقلني إلى هذا القصر، ولم أفهم لهذا النقل معنى، فبقاء الملك في يدك أدى إلى سروري وسعادتي من هذه الناحية فحسب.»
فأدرك ألفونس الأمر الذي تشير إليه، مع ما توخته من المبالغة في تلطيف العبارة، وعلم أنها تقرعه لتقاعده عن المطالبة بحقوقه. وكان لا يزال إلى تلك الساعة جاثيا بين يديها، فلما سمع قولها أحس كأنها صبت على بدنه ماء يغلي، فوقف وقد غلب عليه الهيام وهان عليه كل شيء في سبيل رضاها، وقال: «يحق لك يا فلورندا أن تلوميني، فقد تقاعدت عن هذا الأمر، ولكن لكل أجل كتاب، وكنت أمسكت عن زيارتك، وقد عزمت ألا أزورك إلا بعد أن أحقق رغبتك، فطال سعيي ولم أصل إلى الغاية، فلم أعد أصبر على بعدك وأنا أخشى فتورك، ثم رأيت فيك من الثبات في الحب ما زادني ثباتا على مسعاي، فاعلمي يا فلورندا أن من يعتمد عليهم هذا المختلس من أحزاب الروم ليسوا سوى عصابة ضعيفة، وإنما تمكن الأساقفة من تنصيبه ملكا رغبة في خدمة رومية، وكذا أحزاب المملكة ضده وفيهم القوط واليهود وكل من يكره الظلم. وليس هذا موضع الإفاضة في هذا الشأن، ولكنني أقسم لك برأس أبي وإن كان ميتا، أن رودريك هذا لا يلبث أن ينزل ويعود الملك إلى أهله ...»
وكانت فلورندا تسمع كلامه وهي تنظر في وردة من ورد الشتاء كانت خالتها قد جاءتها بها، فتشاغلت بنثر أوراقها وهي تصغي لما يقول ألفونس، فلما بلغ إلى قوله: «ويعود الملك إلى أهله ...» رمت بما بقي بين أناملها من تلك الوردة، ورفعت بصرها إليه كأنها تتثبت من قوله أو تتفهم حقيقة ما يريد، ففهم مرادها فازداد تهورا في تصوره، وأوهمه غرامه أنه قادر على كل شيء، فمد يده ومس أطراف شعره المسترسل على كتفيه وقال: «وإذا كنت لا تثقين بقولي فإني أشهدك على نفسي، وأشهد هذه الخالة أيضا، أن بقاء هذا الشعر حرام علي إن لم أف بقولي.»
فتحققت فلورندا أنه يقسم صادقا، ولكنها لم تكن تجهل ما يحول بينه وبين تلك الأمنية من العقبات، فأرادت أن تخفف من عهده، فقالت: «لا حاجة بنا إلى هذه الأقسام، ولا تعرض نفسك للخطر من أجل الملك فإنه مجد باطل، وإنما المراد أن نكون معا في مأمن من أهل الاعتداء، ولو في كوخ من أكواخ هؤلاء العبيد الذين يشتغلون في الحرث والزرع.»
موكب الملك
فأراد ألفونس أن يجيبها فسمع صفيرا فبهت وأرهف السمع، فسمع قرع الطبول وقرقعة اللجم، فعلم أن موكب الملك راجع من الكنيسة. وقد وصل الموكب إلى القصر وهو لا يزال مستغرقا في حديثه مع فلورندا، فندم وتحقق أنه أخطأ ولا بد من أن يسيء رودريك الظن فيه. ورأته فلورندا قد بغت وسمعت هي مثل ما سمع، فأدركت أنه أبطأ عن الاحتفال، فقالت له: «اذهب الآن بسلام وليكن الله معك ...»
صفحة غير معروفة