عقلا، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل السّنة أَنَّهَا مُمكنَة عقلا وَشرعا فِي الدُّنْيَا، وَاسْتَدَلُّوا لذَلِك بِأُمُور عقلية وَأُمُور نقلية، لَكِن أدلتهم الْعَقْلِيَّة لَا تَخْلُو من دَخَل وخفاء، فالمعوَّل عَلَيْهِ فِي إمكانها إِنَّمَا هُوَ الْأَدِلَّة النقلية. فَمِنْهَا أَن مُوسَى صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وَسلم قد سَأَلَهَا بقوله: ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَاهَا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الْأَعْرَاف: ١٤٠] فَلَو لم تكن الرُّؤْيَة مُمكنَة جَائِزَة الْوُقُوع فِي الْخَارِج لَكَانَ طلب مُوسَى لَهَا جَهْلًا مِنْهُ بِمَا يجوز على الله وَمَا لَا يجوز، أَو سفهًا أَو عَبَثًَا أَو طلبا للمُحال، والأنبياء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ منزهون عَن كل فَرْدٍ فَرْدٍ من ذَلِك إِجْمَاعًا بل مَنْ جوَّز وَاحِدًا من هَذِه على واحدٍ مِنْهُم فَهُوَ كَافِر مراق الدَّم، وَأَيْضًا فَالله تَعَالَى قد علق الرُّؤْيَة باستقرار الْجَبَل وَهُوَ أَمر مُمكن فِي نَفسه، فَوَجَبَ كَون الْمُعَلق بِهِ كَذَلِك إذْ الْمحَال لَا يُعلق بممكن أصلا، وَأول المعتزلةُ الْآيَة بتأويلات تخَالف ظَاهرهَا حَتَّى يخرجوها عَنهُ إِلَى مَا يُوَافق اعْتِقَادهم الْفَاسِد، أَنَّهَا من قسم الْمحَال الْعقلِيّ الَّذِي لَا يُمكن وُقُوعه فِي الدُّنْيَا كالآخرة، وَمحل بسطها وردهَا كتب التَّفْسِير وَالْأُصُول. الثَّانِي: فِي وُقُوعهَا وَهَذَا غير الأول كَمَا هُوَ وَاضح، لَكِن وَقع فِي كَلَام السَّائِل نفع الله بِهِ مَا يَقْتَضِي اتحادهما وَهُوَ قَوْله: فَهَل يجوز ذَلِك كَمَا قَالَه جمَاعَة إِلَخ؟ إذْ الَّذِي قَالَه أُولَئِكَ إِنَّمَا هُوَ الْجَوَاز بِمَعْنى الْإِمْكَان الْعقلِيّ والشرعي، وَالَّذِي سَأَلَ عَنهُ إِنَّمَا هُوَ الْوُقُوع وشتان مَا بَين المقامين كَمَا تقرر، وَمِمَّا يُوضحهُ أَن بحرًا من زئبق يُنْبت الْأَجْسَام الجامدة والنامية والحساسة والمتحركة بالإرادة مُمكن الْوُجُود عقلا، لكنْ لم يَقع ذَلِك وَلم يبرز إِلَى حيّز هَذَا الْوُجُود، فَكَذَلِك الرُّؤْيَة وَإِن كَانَت مُمكنَة عقلا وَشرعا عِنْد أهل السّنة لكنَّها لم تقع فِي هَذِه الدَّار لغير نَبينَا ﷺ، وَكَذَا لَهُ على قَول عَلَيْهِ بعض الصَّحَابَة ﵃ لكنَّ جُمْهُور أهل السّنة على وُقُوعهَا لَهُ ﷺ لَيْلَة الْمِعْرَاج بِالْعينِ. إِذا تقرر ذَلِك عُلِم مِنْهُ أَنه لَا يجوز لأحد أَن يدعى أَنه رأى الله بِعَين رَأسه وَمن زعم ذَلِك فَهُوَ كَافِر مراق الدَّم، كَمَا صرح بِهِ من أَئِمَّتنَا صَاحب الْأَنْوَار وَنَقله عَنهُ جمَاعَة وأقروه. وَحَاصِل عِبَارَته: أنَّ مَنْ قَالَ إِنَّه يرى الله عَيانًا فِي الدُّنْيَا ويكلمه شفاهًا فَهُوَ كَافِر، وَلما نقلت عَنهُ ذَلِك فِي كتابي (الْإِعْلَام بِمَا يقطع الْإِسْلَام) وَهُوَ كتاب نَفِيس لم يتْرك من المكفرات الْمُتَّفق عَلَيْهَا والمختلف فِيهَا شَيْئا إِلَّا أَحْصَاهُ. قلت: وَالْوَجْه أَنه لَا يشْتَرط فِي كفر من زعم أَنه يرى الله عَيانًا فِي الدُّنْيَا ويكلمه شَفاها اجْتِمَاع هذَيْن خلافًا لما توهمه عبارَة (الْأَنْوَار) بل يكْفُر زاعم أَحدهَا انْتهى، وَسَيَأْتِي فِي الْآيَات وَالْأَحَادِيث مَا يدل لذَلِك لَكِن يتَعَيَّن حمله على عَالم أَو جَاهِل مقصر بجهله، وَقد ضم إِلَى زَعمه الرُّؤْيَة بِعَيْنِه، زعْمهُ اعْتِقَاد وجود جسم ولازمه من الْحُدُوث، أَو مَا يستلزمه كالصورةَ واللون وَنَحْوهمَا فَهَذَا هُوَ الَّذِي يتَّجه الحكم بكُفْره، لِأَنَّهُ حينئذٍ لم يعْتَقد قدم الْحق وَلَا كَمَاله تَعَالَى الله عَن ذَلِك علوًّا كَبِيرا. وَأما من اعْتقد رُؤْيَة عين منزهة عَن انضمام ذَلِك إِلَيْهَا فَلَا يظْهر الحكم بِكُفْرِهِ بِمُجَرَّد ذَلِك، لِأَن الْمَنْقُول الْمُعْتَمد عندنَا عدم كُفْر الجهوية والمجسمة إِلَّا إِن اعتقدوا الْحُدُوث أَو مَا يستلزمه، وَلَا نظر إِلَى لَازم مَذْهَبهم لِأَن الْأَصَح فِي الْأُصُول أَن لَازم الْمَذْهَب لَيْسَ بِمذهب، لجَوَاز أَن يعْتَقد الْمَلْزُوم دون اللَّازِم، ومنْ ثمَّ قُلْنَا: لَو صرح باعتقاد لَازم الجسمية كَانَ كَافِرًا، وَقَالَ الْأَذْرَعِيّ وَغَيره: الْمَشْهُور عدم تَكْفِير المجسمة، وَإِن قَالُوا جسم كالأجسام أَي لأَنهم مَعَ ذَلِك قد لَا يَعْتَقِدُونَ لَوَازِم الْأَجْسَام. وَإِذا تقرر هَذَا فِي الجهوية والمجسمة فَكَذَا يُقَال بِهِ فِي زاعم رُؤْيَة الْعين.
فَإِن قلت: الْفرق بَينهمَا وَاضح فَإِن تينك الْفرْقَتَيْنِ قد ورد فِي الْكتاب وَالسّنة مَا يَصح بقولهمَا لَوْلَا مَا امتنَّ الله بِهِ على الْأمة من توفيق سلفها وَخَلفهَا إِلَى صرف تِلْكَ النُّصُوص عَن ظواهرها، وَإِنَّمَا الْخلاف بَين السّلف وَالْخلف فِي التَّأْوِيل التفصيلي، فالسلف يرجحون أَوْلَوِيَّة الْإِمْسَاك عَنهُ لعدم احتياجهم إِلَيْهِ لصلاح زمنهم، وَالْخلف يُرجِّحون أولويته، بل وجوب الْخَوْض فِيهِ لفساد زمنهم وَكَثْرَة مبتدعته، وَقُوَّة شوكتهم وتمويه شبههم. وَأما زاعم الرُّؤْيَة بِالْعينِ فقد ورد من الْأَدِلَّة القطعية مَا يشدد النكير على سائلها واقترن بِهِ مَا يقوى استنكار ذَلِك واستعظامه كَقَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىالَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىانَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [الْبَقَرَة: ٥٥] وَقَوله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىاأَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ [النِّسَاء: ١٥٣] وَقَوله ﷾: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىارَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ [الْفرْقَان: ٢١] وَصَحَّ فِي مُسلم أَنه ﷺ قَالَ:
1 / 108