وَقَوله: وَمِمَّا يتَأَكَّد النَّهْي عَنهُ والتحذير مِنْهُ. وَيُوجه بِأَن تَسْمِيَته حَقًا مَعَ عدم اعْتِقَاد حقيته كذب صَرِيح فحرُم لذَلِك، وَأما الْكَرَاهَة فَلَا وَجه لَهَا فتصريحه أَعنِي الْجلَال بهَا مِمَّا يتعجب مِنْهُ فاعلمه.
وَأما الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة وَالْعشْرُونَ: فدليلها خبر أبي دَاوُد أَنه ﷺ قَالَ: (لَا يسئل بِوَجْه الله إِلَّا الْجنَّة) وَألْحق بِالْجنَّةِ كل خير أخروي. وَأما الْمَسْأَلَة السَّادِسَة وَالْعشْرُونَ: فدليلها الْخَيْر الصَّحِيح (مَنْ استعاذ بِاللَّه فأعيذوه، وَمن سَأَلَ بِاللَّه فَأَعْطوهُ، وَمن دعَاكُمْ فأجيبوه، وَمن صنع إِلَيْكُم مَعْرُوفا فكافئوه، فَإِن لم تَجدوا مَا تكافئونه فَادعوا لَهُ حَتَّى تروا أَنكُمْ قد كافأتموه) . وَفِي أَخذ الْكَرَاهَة من هَذَا نظر إِلَّا أَن يُرَاد بهَا خلاف الأولى.
وَأما الْمَسْأَلَة السَّابِعَة وَالْعشْرُونَ: فَمَا ذكره من الْكَرَاهَة هُوَ الصَّحِيح خلافًا لمن أَبَاحَهُ بِلَا كَرَاهَة، وَإِن كَانَ أول من كتبه الزَّنَادِقَة، ومكاتبة السّلف إِنَّمَا كَانَت: من فلَان إِلَى فلَان، أما بعد: سَلام الله عَلَيْك، أما بعد: فَإِنِّي أَحْمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، وأسأله أَن يُصَلِّي وَيسلم على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد. ثمَّ أحدثت الزَّنَادِقَة المكاتبات الَّتِي أَولهَا أَطَالَ الله بَقَاءَك.
وَأما الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة وَالْعشْرُونَ: فالكراهة الَّتِي ذكرهَا الْجلَال فِي الْجِدَال والمراء وَالْخُصُومَة لم يُصَرح بهَا النَّوَوِيّ فِي الْأَذْكَار)، بل مُقْتَضى عِبَارَته الْحُرْمَة. وحاصلها: أَن هَذِه الثَّلَاثَة مِمَّا يذم بِهِ من الْأَلْفَاظ، وَأَن الْغَزالِيّ فسر المراء بِأَنَّهُ طَعْنك فِي كَلَام الْغَيْر، بِإِظْهَار خلل فِيهِ لغير غَرَض سوى تحقير قَائِله، أَو إِظْهَار مرتبتك عَلَيْهِ، والجدال بِأَنَّهُ عبارَة عَن أَمر يتَعَلَّق بِإِظْهَار الْمذَاهب وتقريرها، وَالْخُصُومَة بِأَنَّهَا لجاج فِي الْكَلَام يَسْتَوْفِي بِهِ مَقْصُوده من مَال أَو غَيره ابْتِدَاء واعتراضًا، والمراء لَا يكون إِلَّا اعتراضًا هَذَا كَلَام الْغَزالِيّ. وَاعْلَم أَن الْجِدَال قد يكون بِحَق وَقد يكون بباطل قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواءَامَنَّا بِ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٦] ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النَّحْل: ١٢٥] فَإِن كَانَ الْجِدَال للوقوف على الْحق حُمِد، أَو فِي مدافعة حق أَو بِغَيْر حق ذمّ، وعَلى هَذَا التَّفْصِيل تتنزل النُّصُوص الْوَارِدَة فِي مدحه وذمه، وَلَا يُنَافِي مَا ذكره فِي الْخُصُومَة اضطِّرار الْإِنْسَان إِلَيْهَا لِاسْتِيفَاء حَقه، لِأَن الذَّم المتأكد إِنَّمَا هُوَ لمن خَاصم بِالْبَاطِلِ، أَو بِغَيْر علم، كوكيل القَاضِي، فَإِنَّهُ يتوكل فِي الْخُصُومَة قبل أَن يعرف أَن الْحق فِي أَي جَانب هُوَ، فيخاصم بِغَيْر علم، فَيدْخل فِي الذَّم أَيْضا من يطْلب حَقه، لكنه لَا يقْتَصر على قدر الْحَاجة، بل يُظْهر الْكَذِب للإيذاء، أَو التسليط على خَصمه، وَكَذَلِكَ مَنْ خلط فِي الْخُصُومَة كَلِمَات تؤذي وَلَيْسَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَة فِي تَحصيل حَقه، وَكَذَلِكَ مَنْ يحملهُ على الْخُصُومَة محْضُ العناد لقهر الْخصم وكسره، فَهَذَا هُوَ المذموم، وَأما الْمَظْلُوم الَّذِي ينْصرُ حجتَّه بطرِيق الشَّرْع من غير لَدَدْ وإسراف وَزِيَادَة لجاج على الْحَاجة من غير قصد عناد، وَلَا إِيذَاء، فَفعله هَذَا لَيْسَ حَرَامًا، ولكنَّ الأولى تَرْكَهُ مَا وجد إِلَيْهِ سَبِيلا، لِأَن ضبط اللِّسَان فِي الْخُصُومَة على حد الِاعْتِدَال مُتَعَذر، وَالْخُصُومَة توغر الصَّدْر، وتهيج الْغَضَب، وَإِذا حصل الْغَضَب حصل الحقد بَينهمَا حَتَّى يفرح كل وَاحِد بمساءة صَاحبه، ويحزن بمسرته، وَيُطلق اللِّسَان فِي عرضه، فَمن خَاصم فقد تعرض لهَذِهِ الْآفَات وَأَقل مَا فِيهِ اشْتِغَال الْقلب بهَا عَن الْعِبَادَات، وَهِي مبدأ الشرِّ، وَكَذَا الْجِدَال والمراء فَيَنْبَغِي أَن لَا يفتح فِيهِ بَاب الْخُصُومَة إِلَّا لضَرُورَة لَا بُد مِنْهَا وَعند ذَلِك يحفظ لنَفسِهِ وَقَلبه عَن آفاتها. وروى التِّرْمِذِيّ أَنه ﷺ قَالَ: (كفى بك إِثْمًا أنْ لَا تزَال مُخاصمًا) انْتهى كَلَام (الْأَذْكَار) . وَإِذا تأملتها تعجبت من إِطْلَاق الْجلَال الْكَرَاهَة فِي هَذِه الثَّلَاثَة، وَعلمت أَن حُرْمَة الثَّلَاثَة بقيودها الْآتِيَة هِيَ الَّتِي دلّت عَلَيْهَا عبارَة النَّوَوِيّ لَا سِيمَا قَوْله فِي الْخُصُومَة: وَأما الْمَظْلُوم الَّذِي يَنْصرُ حجتَّه إِلَى قَوْله فَهَذَا لَيْسَ بِحرَام، الظَّاهِر أَو الصَّرِيح فِي تَحْرِيم مَا قبله، وَمَا خرج عَنهُ بالقيود الَّتِي جعلهَا فِيهِ شرطا بِعَدَمِ حرمته كَمَا يَأْتِي، وَكَيف سَاغَ للجلال أَن يجْزم بِكَرَاهَة المراء مَعَ تَفْسِيره لَهُ بِمَا مر عَن الْغَزالِيّ، مِمَّا أَفَادَ أَنه لَيْسَ الْغَرَض مِنْهُ إِلَّا تحقير قَائِله وتحقير الْغَيْر حرَام إِجْمَاعًا، فَالصَّوَاب أَنه حينئذٍ حرَام غليظ التَّحْرِيم، وَكَيف سَاغَ لَهُ أَيْضا أَن يجْزم بِكَرَاهَة الْجِدَال لغير حجَّة مَعَ تَفْسِير النَّوَوِيّ لَهُ بِأَنَّهُ الْجِدَال فِي مدافعة الْحق أَو بِغَيْر الْحق، وكل من هذَيْن تَحْرِيمه ظَاهر لَا يخفى على من لَهُ أدنى مسكة، لما عُلم مِمَّا قَرَّرَهُ النَّوَوِيّ أَن الْجِدَال أَمر يتَعَلَّق بِإِظْهَار الْمذَاهب وتقريرها، وحينئذٍ فَمن أظهر مذْهبه بالاستدلال لَهُ مَعَ علمه بِبُطْلَانِهِ، أَو احْتج لَهُ بِمَا يعلم أَنه بَاطِل فقد جادل بِغَيْر حجَّة، وارتكب محرما شَدِيدا، لنُصْرته للباطل، أَو ترويجه لَهُ على السَّامع، وَكَيف
1 / 104