3 - حكم المظاهرات المؤيدة للمسلمين المستضعفين
يقول السائل: ما قولكم في فتوى بعض العلماء بأن المظاهرات التي تقام لنصرة المسلمين المستضعفين من البدع، وبأنها أعمال غوغائية وضوضاء لا خير منها، وأنها تصد الناس عن ذكر الله عز وجل، وأنها من الفساد في الأرض، أفيدونا؟
الجواب: المظاهرات من الوسائل المعاصرة للتعبير عن الرأي وإظهار المشاعر والأحاسيس، وإذا أردنا أن نعطي حكما شرعيا للمظاهرات، فلا بد أولا من تحرير محل النزاع كما يقول الفقهاء، حتى يكون كلامنا دقيقا، فالمظاهرات التي أتكلم عليها هي المظاهرات التي تخلو من المحرمات والمخالفات مثل: اختلاط الرجال بالنساء أثناء المظاهرة وخروج النساء متبرجات ومثل الاعتداء على ممتلكات الناس كتحطيم السيارات والمحلات أو حرق المباني واستخدام السباب والشتائم والهتاف بشعارات لا يقرها الشرع ونحو ذلك من المخالفات التي تحدث في المظاهرات. إذا تقرر هذا فإن المظاهرات تضبطها القواعد الشرعية التالية:
أولا: قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة وهذه القاعدة كما قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: [كلمة جامعة ومقالة عامة وقضية فاضلة عظيمة المنفعة واسعة البركة يفزع إليها حملة الشريعة فيما لا يحصى من الأعمال وحوادث الناس] مجموع الفتاوى 2/535.
ومن المعلوم عند الفقهاء والأصوليين أن الأفعال داخلة في عموم القاعدة، قال العلامة العثيمين: [الأصل في الأشياء عموما الأفعال والأعيان وكل شيء الأصل فيه الحل] القواعد الفقهية ص31، ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عن لنهى عنه القرآن) رواه البخاري ومسلم، قال العلامة ابن القيم: [وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله
....
] إعلام الموقعين 2/387
وقال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: [وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة وهي التي نسميها (العادات والمعاملات) فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقييد إلا ما حرمه الشارع وألزم به، وقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} سورة الأنعام الآية 119، عام في الأشياء والأفعال. وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي وفيها جاء الحديث الصحيح: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع، وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى ... ] القواعد النورانية 112-113] الحلال والحرام ص21-23. وبناء على ما سبق فإن المظاهرات داخلة تحت القاعدة السابقة والقول بتحريمها باطل لأنه لا تحريم إلا بنص.
ثانيا: قرر العلماء أن للوسائل أحكام المقاصد، فالمظاهرات وسيلة للتضامن مع المسلمين، وفيها إظهار للحق، ورفض للظلم، وشحذ للهمم، وتعبير عن كون المسلمين كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) رواه البخاري ومسلم. فلا شك أن المظاهرة وسيلة لمقاصد عظيمة، وهذه المقاصد مطلوبة شرعا، فالوسيلة المؤدية إليها مطلوبة شرعا، قال الإمام العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد، هي أرذل الوسائل] قواعد الأحكام 1/46. وقال الإمام شهاب الدين القرافي: [وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة، ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح) فأثابهم الله على الظمأ والنصب وإن لم يكونا من فعلهم بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة] الفروق 2/33. وقال العلامة العثيمين: [وقد قال أهل العلم للوسائل أحكام المقاصد فما كان وسيلة لمطلوب فهو مطلوب وما كان وسيلة لمنهي منه فهو منهي عنه] عن شبكة الإنترنت.
ثالثا: إذا سلمنا بأنه لم يرد دليل شرعي خاص في المظاهرات – مع أن القائلين بالجواز أوردوا أدلة كثيرة - فيمكن تخريج جواز المظاهرات بناء على قاعدة المصلحة المرسلة، وهي التي لم يرد دليل من الشرع باعتبارها ولا بإلغائها. فيقال [هذه الممارسات التي لم ترد في العهد النبوي، ولم تعرف في العهد الراشدي، ولم يعرفها المسلمون في عصورهم الأولى، وإنما هي من مستحدثات هذا العصر: إنما تدخل في دائرة المصلحة المرسلة ... وشرطها: أن لا تكون من أمور العبادات حتى لا تدخل في البدعة، وأن تكون من جنس المصالح التي أقرها الشرع، والتي إذا عرضت على العقول، تلقتها بالقبول، وألا تعارض نصا شرعيا، ولا قاعدة شرعية. وجمهور فقهاء المسلمين يعتبرون المصلحة دليلا شرعيا يبنى عليها التشريع أو الفتوى أو القضاء، ومن قرأ كتب الفقه وجد مئات الأمثلة من الأحكام التي لا تعلل إلا بمطلق مصلحة تجلب، أو ضرر يدفع، وكان الصحابة – وهم أفقه الناس لهذه الشريعة- أكثر الناس استعمالا للمصلحة واستنادا إليها] عن موقع إسلام أون لاين.
رابعا: إن ما زعمه المانعون من المظاهرات بأنها بدعة لم ترد في الشرع، وأن كل بدعة ضلالة، أقول هذا الكلام مردود، لأن الراجح من أقوال أهل العلم أن البدعة التي هي ضلالة، محصورة في العبادات ولا تدخل في الأمور العادية، قال الإمام الشاطبي: [فالبدعة إذا عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه. وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات] الاعتصام 1/37. إذا تقرر هذا فإن البدعة هي التعبد لله بما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى ولا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأت عن الخلفاء الراشدين، وهذا لا يكون إلا في العقائد والعبادات، فالبدعة التي تعد بدعة في الدين، هي البدعة في العقيدة أو العبادة قولية أو فعلية، كبدعة نفي القدر وبناء المساجد على القبور وإقامة القباب على القبور وقراءة القرآن عندها للأموات والاحتفال بالموالد إحياء لذكرى الصالحين والوجهاء والاستغاثة بغير الله والطواف حول المزارات، فهذه وأمثالها كلها ضلال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ... وأما الأمور العادية والدنيوية فالمحدث منها لا يسمى بدعة شرعا وإن سمي بدعة لغة، فلا تعد المحدثات الجديدة بدعا في الدين مثل الطائرات ووسائل الاتصالات ومكبرات الصوت ... الخ. وكذلك ما يعد من الوسائل كتعلم العلوم المختلفة كعلم النحو وكذا طبع المصحف وحفظه بوسائل الحفظ الحديثة كالأشرطة المسجلة والحاسوب ونحوها فهذه الوسائل لها أحكام الغايات والمقاصد فإذا كانت الغايات مشروعة كانت وسائلها المؤدية إليها مشروعة وليست من البدع في شيء.] إتباع لا ابتداع ص 43-44.
وبناء على ما سبق فالمظاهرات لا تدخل في مفهوم الدعة.
خامسا: قول المانعين للمظاهرات بسبب ما يرافقها من أمور منكرة، لا يعني منعها مطلقا، بل المنع يكون منصبا على تلك الأمور المرافقة المحرمة فقط، ولا ينسحب هذا التحريم على أصل المسألة، ما دام هذا الأصل ضمن دائرة الإباحة.
ويضاف إلى ما سبق أن المظاهرات لنصرة المسلمين والوقوف مع المستضعفين، فيها نوع من تحقيق الشعور بالأخوة الإسلامية وتعبير واضح عن كون المؤمنين كالجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ولا شك أن هذا الأمر داخل في عقيدة أهل السنة والجماعة، هذه العقيدة التي يجب أن تطبق بشكل عملي، وليس مجرد كلام يطير مع الهواء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عند حديثه عن أصول أهل السنة والجماعة: [ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص؛ يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء.] العقيدة الواسطية. وأخيرا فإن وسيلة التظاهر لا تمنع التعبير عن الإخوة الإيمانية بوسائل أخرى كالدعم المالي والمادي والدعاء للمسلمين وخاصة في قنوت النوازل وفي قيام الليل، وغير ذلك.
وخلاصة الأمر أن المظاهرات وسيلة مشروعة للتعبير عن الرأي وللتضامن مع المسلمين الذين يتعرضون للمحن والويلات والمآسي من تقتيل وتشريد وهدم للمنازل وهدم للمساجد والمؤسسات العامة والخاصة، والقول بأن المظاهرات بدعة أو إفساد في الأرض قول غير صحيح، تأباه قواعد الشريعة الإسلامية.
صفحة ٣