الفصل السابع
أم الأمراء
وكانت أم الأمراء امرأة عاقلة حكيمة ذات مبرات وحسنات ولها رأي وحزم. وكثيرا ما كان المعز يباحثها ويستشيرها وكان قد أخبرها في ذلك الصباح عن لمياء وأوصاها بها.
دخلت لمياء قصر أم الأمراء ولو كانت ممن دخل قصور الأمراء في مصر أو بغداد في ذلك العهد لحسبته منزل بعض الخدم؛ لأنه كان من البساطة بحيث يقرب من حال البداوة، تلك كنت سياسة المعز خوفا من عواقب الترف؛ لعلمه أن الترف والرخاء من أكبر العوامل في سقوط الدولة - كما علمت من كلامه لقائده.
وكانت أم الأمراء جالسة في غرفتها على بساط من السجاد بلا وشي ولا تطريز، وعليه مساند من الديباج البسيط وقد لبست لباسا بسيطا واتشحت بمطرف وأرسلت شعرها مضفورا بأبسط ما يكون. فسرت لمياء لتسرعها في نزع حليها قبل الدخول على تلك الأميرة. فتقدم خفيف الصقلي أولا فأنبأ أم الأمراء بمجيء لمياء، فأمرتها أن تتقدم، فتقدمت ولم يقع نظر لمياء على أم الأمراء حتى استأنست بها كأنها ربيت في منزلها وأشارت إليها أم الأمراء أن تقعد فقعدت متأدبة وانصرف خفيف. فقالت أم الأمراء: «أهلا بالضيفة الجديدة.»
فقالت: «أشكرك يا سيدتي على هذا اللطف، إنما أنا جارية في قصرك.»
فقالت: «بل أنت ضيفة مكرمة فإن قائدنا جوهرا أثنى كثيرا على أدبك وتعقلك وقال إنه لم يرض لك العبودية فأطلق سراحك.»
قالت وهي تنظر في البساط مبالغة في التأدب: «إن ذلك فضل كبير له لا أنساه في عمري. أما فضل مولاتي زوج أمير المؤمنين فلا أقدر على القيام بشكره.»
فتجاهلت أم الأمراء عند سماع ذلك الإطراء وغيرت الحديث، فقالت: «لم أفعل شيئا بعد، ولعلي أستطيع أن أفعله في المستقبل إذ يكون لك قصر مثل هذا القصر تعيشين فيه آمرة ناهية؛ لأن مثلك ينبغي أن يكون لها أحسن نصيب من كبار الرجال.»
فهمت لمياء أنها تشير إلى رغبتها في تزويجها من أحد الأمراء فلم يعجبها ذلك؛ لأنها عالقة القلب بسواه، فبدا ذلك في وجهها وتساقطت من عينيها دمعتان تدحرجتا على خديها فمسحتهما بكمها وهي تبتسم إخفاء لما ظهر من عواطفها فأدركت أم الأمراء ذلك فبادرتها قائلة: «يظهر أنك مشغولة القلب بسوانا .» فلم تتمالك لمياء عن البكاء وهي تخجل من بكائها فغطت وجهها بيديها وكأنها استضعفت نفسها وأنفت من ظهور ضعفها فتجلدت وتشاغلت بالابتسام وهي تنظر إلى أم الأمراء والدمع يتلألأ في عينيها. فأحست أم الأمراء معها فأرادت استطلاع حقيقة حالها لعلها تنفعها في شيء فدنت منها وهي تظهر الاهتمام بها، وقالت: «لا يشق عليك تعرضي لك في أمر تريدين كتمانه وإنما أردت أن أباسطك. ونظرا أنك مشغولة الخاطر بسواه. ألا تجدين في الثقة لتطلعيني على سرك وإن كانت هذه أول مرة رأيتني فيها؟»
صفحة غير معروفة